Partager sur :

البكاري يكتب: زمن المقايضات.. أو أسرلة القضية

طوبى للذين يمتلكون أجوبة مريحة لما حدث يوم عيد حانوكا العبري الأخير، سواء فريق «كل الطرق المؤدية إلى الصحراء تمر من تل أبيب»، أو فريق الرافضين لصفقة «الاعتراف والوعد بقنصلية مقابل التطبيع».

أجدني في مقام الحيرة، عاجزا عن الإمساك بالمقدمات التي أفضت إلى هذا المستجد، الذي أراه مرة انتصارا مرفوقا بأعراض عسر الهضم، ومرة نذير أخطار مقبلة تحجبها هتافات مشجعين فرحين بهدف في مباراة لم تنته بعد.

وإذا كانت الحيرة رفيقة التواضع الذي هو مدخل للفهم، فإن حيرتي من جنس الالتباسات، فلوحة البازل الموضوعة أمامنا تنقصها قطع كثيرة، لن ترفع عنها السرية إلا بعد عقود، لذلك سأترجم الحيرة إلى تساؤلات مزعجة.

1- حاول الإعلام الرسمي أن يبئر الحدث في موضوعة الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، وأن يتحاشى الحديث عن التطبيع إلا في حدود ضيقة. كان فعله أشبه بعملية استئصال زائدة دودية، لكن في المقاهي والأسواق والبيوت ووسائل النقل العمومي كان حديث الناس عن جنازة المرحوم صلاح الغماري، قد لا ينتبه محللو «الكلام الغليظ» إلى ما تسميه «الدراسات الثقافية» بالعابر والمهمل، ويستكينون لما ألفوه من كلاسيكيات موروثة تبني تمثيلات افتراضية، يمكن أن نسميها «الهابيتوس السياسوي»، مع الاعتذار إلى بورديو، أكثر مما تنطلق من الواقع، الذي يزعج وهو يقول إن اهتمام/حزن/متابعة الناس العاديين لحدث رحيل مقدم برنامج كان يحثهم على البقاء في منازلهم وارتداء الكمامة، يفوق انتباههم إلى تطورات قضية الصحراء التي يعتبرها السياسيون (موالاة ومعارضة) القضية الأولى للمغاربة.

يعتبر هؤلاء «المنسيون» في حفلات التحليل التنكرية أن الصحراء هي مجال محفوظ «للمخزن»، لذلك لا «يزعجونه» بالنقد، ولا بالتعبير عن التأييد، ولا بمتابعة تفاصيلها ومستجداتها، مع إيمانهم بأن الصحراء مغربية.. إيمان أشبه بالإيمان الجميل للعجائز كما في الموروث الديني.

في ساحات الحرب على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي بلاتوهات الفضائيات كانت السجالات حول التطبيع غالبة على فرحة الاعتراف، وحتى المدافعون عن الصفقة كانوا يبذلون الجهد للدفاع عن اليد الممدودة لإسرائيل (وربما فقط لنتانياهو)، أكثر من إبراز أوجه التحول الاستراتيجي في النزاع حول الصحراء لفائدة المغرب، واللافت أن كل القوى الدولية خارج الولايات المتحدة رحبت بنصف الكأس فقط (التطبيع)، فيما رفضت النصف الآخر بما فيها الحليف الفرنسي.

لقد كان حل ملف الصحراء رهينا باختراق القرار في قصر المرادية بالجزائر، ولم يكن مجلس الأمن ليرفض أي تفاهمات مغربية جزائرية يوافق عليها الصحراويون، ونقل إمكانات الحل إلى البوابة الإسرائيلية قد يجعل القضية رهينة المزاج الجزائري التقليدي، ورهينة المصالح الإسرائيلية وتقلبات الصراع بمنطقة الشرق الأوسط.

صحيح أن التعنت الجزائري يتحمل جزءا من المسؤولية عن ترحيل خلافات المنطقة نحو البراميل الملغومة في الشرق الأوسط، وقد تجر هذه التطورات الجزائر نفسها نحو التطبيع، وإذاك ستتغير الخرائط مجددا.

لكن، هل كان بإمكان المغرب أن يقاوم الضغوط أكثر مما قاومها، حين رفض القبول دون شروط بصفقة القرن، وحين امتنع الملك عن المشاركة في مؤتمر بسبب حضور نتانياهو، ثم رفض استقباله لاحقا؟ لذلك أرفض أن ينعت موقف المغرب الجديد بالخيانة، فرغم كل التحفظات يبقى الأمر في اعتقادي يدخل في باب التقدير السياسي المرحلي.

فقد وجد المغرب نفسه في الأشواط الأخيرة من مغادرة ترامب البيت الأبيض أمام عرض ربما لم يتوقعه (فشخصيا لست مقتنعا بأن ما جرى هو ثمرة مجهودات دبلوماسية لسنوات كما يروجون)، وربما رافق العرض ابتزاز بتحويله إلى جهة البوليساريو اعترافا.

لقد كانت صفقة الاعتراف بالسيادة على الصحراء وفتح قنصلية بالداخلة والموافقة على بيع طائرات تجسس من الطراز الأكثر تطورا، كل هذا مقابل تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، أشبه بسمسار يعرض عليك شراء منزل بأقل من قيمته الحقيقية عشرات المرات، وعليك أن تقبل أو ترفض خلال يوم واحد فقط، وأنت تعرف أنه في حال الرفض سيعرض الصفقة على جارك الذي بينك وبينه عداوة.

ليس غرضي الدفاع عن خيار النظام، ولكن بيان أن ترامب ونتانياهو أبعد من أن يكونا دعاة سلام، فهما المعادل الموضوعي للتاجر المرابي، ونحن (المدافعون أو المعارضون للصفقة) يجب أن نظل أكثر تيقظا من أي مرحلة قد سبقت.

فوزير الخارجية بخلفية دبلوماسية فشل في الإقناع بأن خطوتي الاعتراف والتطبيع منفصلتان، فخلفية التاجر المرابي عند أمريكا وإسرائيل تقول العكس، فجاريد كوشنر عراب الصفقة يقول إن هذا مجهود أربع سنوات من التفاوض مع الجانب المغربي بغية الاعتراف بمغربية الصحراء مقابل عودة العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب، أما نتانياهو فيذهب إلى أبعد من ذلك في «ترياب الحفلة»، ويصرح بأن الخطوة المغربية الأخيرة في حلقة «تفاهمات أبراهام» تأتي لتعزيز معسكر السلام ضد النزعات التوسعية والنووية الإيرانية، وبهذا يقذف بنا هذا المرابي نحو اصطفافات لا مصلحة لنا فيها مرحليا واستراتيجيا.

وبخلاف حالة الاطمئنان التي يحاول البعض إشاعتها، أعتقد أن ما ينتظر المغرب أصعب من أي وقت مضى، فالإعلان الرئاسي لترامب قد لا يتراجع عنه بايدن، لكن قد يحوله إلى طلقة فارغة إذا لم يفتح قنصلية بالداخلة، وإذا استمرت المواقف التقليدية لواشنطن في مجلس الأمن بخصوص الصحراء، وتوجد مؤشرات عديدة في هذا الاتجاه، كما أن أي تغيرات دراماتيكية في الشرق الأوسط، أو تسارع في مسلسل التطبيع ليشمل الجزائر، سيجعل كل مكاسب صفقة الاعتراف مقابل التطبيع مهددة، فليس سهلا نقل الصراع من إحداثيات الرمال المتقلبة بالصحراء إلى غبار الحروب الشرق-أوسطية.

Arabe
Partager sur :