
جنيف سويسرا
ثمة لحظات في الحياة تُعيد صياغتنا بصمتٍ عميق، وتمنحنا نظرة مختلفة إلى أنفسنا وإلى القوة التي تسكننا. كانت هذه إحدى تلك اللحظات التي علمتني أن الانضباط والصبر لا يصنعان النجاح فحسب، بل يصنعان الإنسان القادر على الإرتقاء فوق حدود النجاح ذاته.
في الثاني والعشرين من شتنبر، سافرت إلى إسبانيا لاجتياز امتحان متعلق بالمنظومة القانونية الإسبانية. عادةً أسافر إما بجواز السفر السويسري أو الإسباني، وهذه المرة استخدمت جوازي السويسري الذي قدمته أثناء التسجيل. أنا شخصية تعشق التنظيم والدقة، وأؤمن أن الترتيب جزء أساسي من النجاح و قوة داخلية تساعد على التحكم بالمواقف المفاجئة ، لذلك جهزت كل أوراقي بدقة قبل السفر ولم أترك شيئًا للصدفة.
في صباح يوم الامتحان، خرجت مبكرًا لإنجاز بعض الإجراءات غير متعلقة بالامتحان. طُلب مني نسخة من جواز السفر، فتوجهت إلى أقرب مكتبة لإنجاز ذلك، ثم ذهبت مباشرة إلى الجامعة. وصلت قبل موعد الامتحان بساعتين، وقررت أن أتناول كوب قهوة وأراجع الدروس بهدوء.
وقبل دخول القاعة، طلبت المسؤولة من الجميع تقديم بطاقة الهوية الأصلية وجواز السفر. وبينما كنت أستعد لإخراج الأوراق، اكتشفت أن جواز السفر ليس معي. بحثت في حقيبتي، ثم في محيطي، لكن دون جدوى. أخبرت المسؤولة أن جواز السفر ضاع قبل ساعات قليلة، وقدمْت بطاقة هويتي السويسرية، لكنها رفضت بحزم، مؤكدة أن اللوائح تمنع دخول أي طالب بدون الجواز الأصلي، وأن البطاقة وحدها لا تكفي.
شعرت أن حلمي على وشك الانكسار، فانهارت دموعي، لم يكن بكائي ضعفًا، بل تحررًا ووسيلة لإعادة شحن العقل والقلب. لقد أفرغت الألم كي يعود العقل للعمل مجددًا و كأنها لحظة تطهير نفسي ، ورغم شعوري بالانهيار الداخلي ، لم أستسلم، وبدأت أفكر في حل قانوني . سألت المسؤولة متعمدة عن فحوى الامتحان، فأخبرتني أنه يتعلق بالدستور والقانون المسطرة الجنائية ، القوانين العضوية ، القوانين العادية.
حينها فجأتها و أوضحت لها أنني أحمل أيضًا الجنسية الإسبانية، وأنني مواطنة إسبانية، مع أنني سافرت من سويسرا إلى إسبانيا بجواز السفر السويسري، اي ان جواز سفري الاسباني ليس معي . ذكرت لها أن القوانين العضوية (Leyes Orgánicas) تمنح المواطنين الحق في إثبات الهوية، وأن المادة 9 من Ley Orgánica 4/2015 توضح أن الشرطة هي الجهة المخوَّلة رسميًا للتحقق من الهوية، وأنه لدي الحق في الاتصال بالشرطة لفتح محضر يثبت هويتي. وبيّنت لها بأن الشرطة، بالاستعلام عن بصمات الأصابع المسجَّلة عند إصدار بطاقة الهوية الوطنية، قادرة بسرعة وبشكل موثوق على التحقق من هويتي.
ابتسمت المسؤولة وقالت لي إنه لا داعي لذلك، ومنحتني فرصة حتى السادسة مساءً لحل المشكلة. لم يكن الموقف بسيطًا بالنسبة لي؛ ففي لحظةٍ كنت أترقب فيها الجمود، وجدت إنسانية صافية تتجلى في وجهٍ من كتالونيا، لتؤكد لي أن النُبل لا يعرف حدودًا ولا جنسيات.
عندها بدأت أسترجع ذاكرتي بتركيز وهدوء، حتى تذكرت أين تركت جواز السفر. سارعت إلى المكتبة التي كانت تبعد نحو ثلاثين كيلومترًا عن الجامعة، واسترجعته وعدت به، وأنا أردد في قلبي امتنانًا لذلك الموقف الذي منحني فرصة لم أنسَها حتى اليوم.
لا أخفيكم قبل وقوع المشكلة انتابني شعور بالخوف لا اعرف لماذا ، وبعدها شعرت بالتوتر، لكنني عندما سلمتها جواز السفر و بطاقة الهوية واستلمت أوراق الامتحان، شعرت بأن البكاء كان بمثابة اغتسال روحي وإشراقة منيرة لعقلي. كان عدد أوراق الامتحان ثلاثًا، وأجبْت عن جميع الأسئلة بثقة وتركيز في وقت وجيز أنا لم أتخيله. شعرت أن كل ما حدث كان حكمة من الله، وأنه في لحظة ضعفي، أضاء لي عقلي و قلبي ، وتمسكت بحلمي دون أن أترك أي شيء يوقفني.
لقد كانت تجربة مليئة بالتوتر والخوف، لكنها علمتني درسًا عميقًا: الصبر، القوة الداخلية، والإيمان بالقدرة على التغلب على أصعب اللحظات، هي مفتاح النجاح الحقيقي.
ان التحديات ليست عقبات، بل فرص لإبراز أفضل ما لدينا. التنظيم، الإيمان بالنفس، والتفكير العقلاني يمكن أن يحوّل أي أزمة إلى انتصار.
الحمد لله، تم الإعلان عن النتائج يوم الجمعة ، وقد اجتزت الامتحان بتفوق، حاملة معي درسًا عميقًا عن الصبر، القوة الداخلية، والإيمان بالقدرة على تجاوز أصعب اللحظات.