
كثرت في السنوات الأخيرة تلك التنبؤات التي يطلقها بعض “العرافين”، فلم تعد تقتصر على حياة المشاهير أو الشؤون الإجتماعية العابرة، بل تجاوزتها إلى قضايا تمس أمن الدول وإستقرارها، وإلى مصائر شخصيات سياسية وإقتصادية عالمية، حتى غدت هذه “التوقعات” في كثير من الأحيان أدوات ناعمة ضمن ترسانة الحرب النفسية التي تخوضها أجهزة المخابرات لتوجيه الرأي العام، أو جس نبض المجتمعات، وتهيئتها لتقبل سيناريوهات معدة سلفا بمهارة ودهاء. فخلف الخطاب الغيبي الذي يبدو بريئا في ظاهره، تختبئ هندسة نفسية دقيقة تستثمر هشاشة الوعي الجمعي وتغذي القلق الاجتماعي، لتحول الخوف إلى وسيلة ضبط، والفضول إلى أداة إختراق.
لقد أدركت القوى الكبرى منذ الحرب الباردة أهمية إستثمار الماورائيات كغطاء إستخباراتي ناعم، فوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA أطلقت مشروعها الشهير “ستارغيت” Stargate Project بالتعاون مع وكالة الاستخبارات الدفاعية للأمن القومي NSA، بهدف إستكشاف إمكانية “الإستبصار عن بعد” وإستعماله في رصد المنشآت السوفياتية أثناء الحرب الباردة. و شارك في هذا المشروع منجمون وعرافون أمثال “إنغو سوان”، ممن زعموا قدرتهم على “رؤية” مواقع نووية في عمق الإتحاد السوفياتي، وأستخدمت تجاربهم لقياس حدود التأثير النفسي على العقول. وفي الجهة المقابلة، أنشأ جهاز KGB في موسكو مراكز متخصصة في “البحوث النفسية” تستغل شخصيات مثل “نينا كولاغينا” التي روج لها إعلاميا كصاحبة قدرات خارقة، بينما كانت في الواقع واجهة لتجارب حول التحكم العقلي والتأثير الذهني في إطار حرب نفسية متقدمة.
ولم يكن الشرق الأوسط بمنأى عن هذا الاستخدام الإستخباراتي للعرافة، فقد برع الموساد الإسرائيلي في توظيف المنجمين والعارفين لبث رسائل مشفرة إلى جماهير عربية أو إلى أنظمة معادية، عبر توقعات إعلامية تهيئ الرأي العام لتقبل أحداث معينة أو لخلق ارتباك إدراكي قبل إتخاذ قرارات سياسية أو أمنية حساسة. كما اعتمد الحرس الثوري الإيراني على “العارفين” الذين قدموا كأصحاب رؤى دينية لتبرير سياسات أو تدخلات ميدانية تحت غطاء النبوءة والإلهام، فاختلط الديني بالإستخباراتي في لعبة النفوذ والتأثير على الوعي الجمعي.
اليوم، وفي ظل الثورة الرقمية، لم تعد هذه العمليات النفسية تحتاج إلى قنوات مغلقة أو إلى أجهزة رصد متخصصة، بل صارت تدار عبر المنصات الإجتماعية، حيث تنتشر “التوقعات” بسرعة الضوء، وتتحول إلى “حقائق نفسية” تغرس في اللاوعي الجماعي، فتسبق الحدث وتشكله في آن واحد. ومن ثم، لم تعد العرافة فعلا فرديا أو خرافة شعبية، بل أضحت جزءا من حرب الإدراك التي تستهدف السيطرة على العقول قبل السيطرة على الميادين.
في السياق الوطني تتكرر بين الفينة والأخرى موجات من “التنبؤات” تركز على سيناريوهات “الإنفجار الاجتماعي” أو “التغييرات المفاجئة في هرم السلطة”، أو “الانقسامات السياسية”، وهي مواضيع تتقاطع بوضوح مع أجندات إعلامية وإستخباراتية خارجية تسعى إلى زعزعة الثقة بين الدولة ومواطنيها، والنيل من الصورة الإيجابية التي رسخها المغرب كبلد إستقرار في محيط مضطرب. غير أن هذه المحاولات تصطدم بحائط الوعي الوطني المتين، وبالتحام المؤسسة الملكية بشعبها، وبحكمة الدولة المغربية التي أثبتت عبر العقود قدرتها على إمتصاص الصدمات وإدارة الأزمات بواقعية وعقلانية. إن قراءة هذه الظاهرة لا ينبغي أن تقوم على الإيمان بالغيب، بل على فهم ميكانيزمات الإتصال الإستراتيجي والحرب النفسية، إذ تتحول “النبوءة” إلى أداة من أدوات هندسة الوعي الجماعي، ويغدو “العراف” مجرد واجهة لرسائل مشفرة تتقنها أجهزة تعرف كيف توظف المعلومة والمخاوف والانفعالات الجماعية لخدمة أهدافها. فالغيب علمه عند الله وحده، أما ما يقدم في هيئة “رؤية مستقبلية” دون سند معرفي أو واقعي، فليس سوى ناتج عن تحليلات إستخباراتية دقيقة تغلف بخطاب روحاني حتى تبدو محايدة وغير موجهة.
ختاما، المجتمعات الواعية لا تختبر بقدرتها على تصديق أو تكذيب العرافين، بل بقدرتها على تحصين وعيها الوطني ضد هذا التلاعب الخفي بالعقول. فالمعركة لم تعد بالسلاح، بل بالعقل و إمتلاك المعلومة وحسن توظيفها. والمغرب بما راكمه من إستقرار مؤسساتي وذكاء إستراتيجي ومناعة فكرية، يظل قادرا على تفكيك هذه الأساليب الناعمة وإفشال أهدافها، لأن وعيه الجمعي أعمق من أن تخترق بنيته الأمنية والاستخباراتية السياسية بنبوءات مصطنعة تنسج في الظل وتسوق في العلن عبر قنوات التواصل الرقمي المختلفة.
د. الحسين بكار السباعي
محلل سياسي وخبير إستراتيجي