FR AR
شارك على :

هل أضحى فساد الفعل السياسي بنيويا؟

إبراهيم أونباركباحث في قضايا الفعل السياسي وإشكاليات تدبير التراب

ما إن تتصفح جريدة ورقية أو إلكترونية، ما إن تفتح مواقع التواصل الاجتماعي المترامية الأطراف على ضفاف بوابات التطبيقات التي أضحت منبر صوت لمن لم يجد بديلا ليُسمع صوته، بعد انسداد أذن من هم أولى بسماع صوت المواطنين التي تصدح حناجرهم بمطالب كان بودنا أن نحققها كدولة وكحكومات منذ عقود خلت.... حتى تربكك أخبار الفساد المستشري والاعتقالات المتتالية لمسؤولين، أخذوا يوما على عاتقهم خدمة الساكنة وحماية الصالح العام، أكانوا على رأس جماعة ترابية أو مؤسسة مركزية أو جهوية أو محلية.

 وبعيدا عن قاموس الأرقام والإحصائيات، فالأمر المؤكد منه أن دورة حياة المفسدين أضحت ظاهرة للعيان: وعود حالمة، تدوير صريح وخفي للمال الانتخابي، الفوز بمسؤوليات تمنح صفة "الآمر بالصرف" ثم غنى لافت لأنظار القريب والبعيد، ليتوج كل شيء بانتشار أخبار الاعتقالات ودهاليز المحاكم وتحول صورة الزعيم الانتخابي والملهم لخطاب السياسة والوعود إلى متهم يصعب تبرئته. 

أمام هذه الدوامة التي كانت، وإلى زمن قريب، غير حادة بهذا الشكل المسجل اليوم، فإنها أصبحت، إبان العشرية الأخيرة، طقسا يوميا مما ينم عن استفحال ظاهرة الفساد الذي ينخر جسم التدبير الترابي على كل الأصعدة، وإلى حد قد يتسأل من يتقصى أخبارنا، داخليا وخارجيا: هل بات الفساد منظومة بنيوية؟ أم هو مجرد ممارسة عابرة، ظهرت نتيجة تمكن "مفسدين" من اعتلاء مراكز تسيير المال العام، وكانوا بلا ضمير أخلاقي ولا غيرة على هذا الوطن؟

هذه الأسئلة، تتناسل عنها أخرى، خصوصا تلك التي يمكن أن تعود بنا إلى  مقصود "الفساد"؟ أسبابه؟ أسسه؟ مرتكزاته؟ وجوهه المتعددة؟ أصحابه؟ قبل التفكير في أي سؤال للتخلص منه؟

ولم يكن الذكاء الاصطناعي إلا منصفا في تعريفه لهذا المفهوم قائلا: "الفساد هو القيام بأعمال غير نزيهة من طرف أشخاص يشغلون مناصب في السلطة، وذلك لتحقيق مكاسب خاصة".  وقدم AI أمثلة عن ظواهر الفساد هاته، كإعطاء وقَبول "الرشاوى والهدايا غير الملائمة، والمعاملات السياسية غير القانونية، والغش أو الخداع، والتلاعب في نتائج الانتخابات، وتحويل الأموال وغسيلها، والاحتيال، والتعامل المزدوج، والمعاملات السرية، والاحتيال على المستثمرين..." وغيرها من تجليات الفساد مثلما سردها الذكاء الإصطناعي في لائحة طويلة. ويبدو أن "ذكاء هذا الذكاء" يتسلل إلى قاعدة أنماط الفساد المتفشية  في مختلف بقع المعمور، وإن كان يعتمد في بحثه على انتقاء الفساد حسب الأماكن القريبة من موقع البحث، فتلك طمة كبرى.

المهم أن تمظهرات الفساد التي أصبحت "سُنة محمودة" لدى الكثيرين ممن تولوا تسيير  الجماعات الترابية، على سبيل المثال لا الحصر"، أضحت فرض عين، كأن حال لسان الواقع التدبيري يقول بضرورة المنافسة من أجل "من ينهب أكثر". والفساد هنا ليس ماليا بالمعنى المباشر فحسب، بل يمتد من السارقة المباشرة للمال العام بشتى الطرق الملتوية ، وصولا إلى عرقلة حقوق المواطنين في الاستفادة من الخدمات التي بدونها لا يمكن الحديث عن دولة اجتماعية، مهما كانت الترسانة القانونية المنظمة لهذا الشكل الطموح مؤسساتيا والصعب تفعيله ميدانيا.  وحينما يتم تقصي سيرورة هذا الكم الهائل من عدد المعتقلين بسبب تهم "نهب المال العام"، يصبح البحث عن مكامن الخلل واردً، بل واجبا على كل من يسعى إلى تغيير الوضع، ولعل التناقض الصارخ  والملحوظ بين "خطاب التقية "، والنزاهة التي يرفعها المسؤول قبل توليه المناصب وبين سلوكاته المشينة مباشرة بعد ضمان المنصب، تطرح الكثير من الاستفسارات التي تحتاج إلى تحليل ميداني سوسيولوجي وسيكولوجي لهذه التركيبة الذهنية التي أصبحت "نموذجا" paradigme قابلا للنسخ في كل الأزمنة والأمكنة وفي كل استحقاق انتخابي مهما كان..

ولنتمعن بشكل أدق في مشاريع المقترحات المقدَّمة من لدن العديد من الأحزاب السياسية لإصلاح منظومة الانتخابات في أفق 2026. والتي لن يختلف فيها العقلاء حول مصدر أزمتها في جميع الاستحقاقات السابقة، والمتجلي خصوصا في استعمال "المال الانتخابي"  المحدد في أرصدة، تعرف سبلها وطرق صرفها لاستمالة الناخبين بعيدا عن الآليات المشروعة، والتي كان من الأفضل أن تكون: تقديم برامج انتخابية واقعية وقابلة للتنفيذ، مع اختيار كفاءات من رجال ونساء، قادرون فعلا على تفعيل  ما تم الاتفاق بشأنه مع المواطنين. والمال الانتخابي هنا، ليس مفهوما نشاز في جل الأنظمة، أكانت ديموقراطية أو ديكتاتورية أو مستبدة، لأنه لا عملية ديموقراطية دون توفير مصاريف وتمويلات تسهل العملية الانتخابية وتحقق تكافؤ الفرص وتحافظ على مكانة الدولة في توجيه مسارات الانتخاب نحو المزيد من الديموقراطية والشفافية والنزاهة، لكن الواقع لا يتم بهذا "الحلم" الذي يراود  "الغيورين" ، لأن هذا "المال الانتخابي" يفقد مصداقيته حينما يأتي من مصادر فاسدة ويتجه لتكريس الفساد وتزوير رغبات المواطنين، مما يجعل الفِعْلَيْن الانتخابي والسياسي مجرد أشكال من الإساءة الممنهجة لهيبة الوطن والمواطنين على حساب مصالح شخصية أو حزبية ضيقة.

وما نجنيه اليوم من عزوف وخوف و هروب من الأحزاب السياسية والنظرة "السيئة" للناخب ولكل منتم إلى المؤسسات الحزبية، ما هو إلا تمرة هذه البنية التي دأب عليها الراغبون في تلطيخ المؤسسات، وعبرها تبخيس العمل المؤسساتي، وما ينجم عن ذلك من فقدان الثقة في التنظيمات وجل القرارات التي تصدر من مختلف القطاعات، حتى وإن كانت صادقة وتطمح إحداث تغييرات أو تعديلات تصب في صميم الحياة اليومية والمعيشية للمواطنين.

إن الفعل الانتخابي وعلاقته الوطيدة بالمنظومة التدبيرية، في جل تجلياتها، يختزل تاريخا جماعيا لحقب متعددة، حققت تراكما من المنزلقات غير محسوبة العواقب، تحولت  بدورها إلى تاريخ في " الإساءة إلى الفعل السياسي، سواء أكان من الدولة أو من الأحزاب السياسية"، وهذه "المنزلقات" هي المصدر الفعلي والمباشر لما آلت إليه الأوضاع في كل هذه المسافة الفاصلة بين المواطن والمؤسسات، بين الناخب والمنتخب، بين المدبر والمنفذ، بين الساهر على التخطيط والموكول إليه مهمة التفعيل.  ولتقليص هذه المسافة، لا مفر من اتخاذ خطوات جريئة، تتجاوز تقديم مذكرات إصلاحية أو ميثاق شرف انتخابي، وتتجاوز حتى مخططات قطاعية زرقاء وخضراء، كما تتخطى أيضا خرائط طريق استعجالية. إنها تحتاج وضع منظومة وطنية لتخليق الحياة العامة، مرفوقة، ليس بمنظومة قانونية، لأن منظومتنا الحالية فيها من القوة ما يكفي، علينا فقط تنفيذها بعيدا عن أية محاباة أو مراعاة لمصالح البعض دون البعض الآخر.  علينا وضع مشروع وطني لإعادة الثقة في كل المؤسسات كمدخل أساسي لتفعيل نماذجنا التنموية، وإلا ستبقى منظومة الفساد وحدها النموذج.

Partager sur :