يقوم بابا الفاتيكان، فرانسيس الأول، بزيارة إلى المغرب يـوميْ 30 و31 مارس 2019، وهي ليست بالزيارة العادية لعدة اعتبارات، أهمها صفة الضيف الذي هو رئيس الكنيسة الكاثوليكية وما تعنيه هــذه المؤسسة من تراكمات تاريخية واجتماعية وفلسفية وفكرية، إضافة إلى ما تلعبه من دور كبير في الوساطة لحل الصراعات والنزاعات المسلحة الدولية، وكـذا دورهـا الخيري والتضامني في أوقات الهجرات الجماعية والحروب وكـذا الكوارث الطبيعية كالفيضانات والجفاف والتصحر.
يُعتبـر الحبر الأعظم، أو بابـا الفاتيكان، من أقـوى الشخصيات المؤثرة في العالــم، سواء على صعيد الدول أو الشعوب، كما أن مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية هي من المؤسسات الأكثر انضباطا وتنظيما، حيث تتمتع بأعراف ضاربة في التاريخ ولها أذرع إعلامية قـوية في كل دول العالـم ومؤسسات حقوقية وهيئات خيرية إقليمية وقارية ودوليـة تابعة لها، مما يجعل من زيارات رئيس كنيسة أو دولة الفاتيكان إلى مختلف دول العالـم، ســواء المسيحية أو غير المسيحية، تكتسي أهمية قصوى، خاصة على المستوى التنظيمي، وأيضا ما يرافقها من تغطية الإعلامية قبـل وأثنـاء وبعـد.
فكل زيارة تحظى برمز خاص، وبرنامج البابا وخرجاته تُـسطر ضمن برنامج سنوي يُنشر وتتداوله جميع وسائل الإعلام، وهو البرنامج الذي تضمن هـذا العام (2019) زيارتيْـن مهمتيْـن، الأولى إلى ـدولة الإمارات العربية المتحدة في فبرايـر، والثانية إلى المملكة المغربية في مارس. وبالرغم من أن حضور البابا إلى المغرب كان متوقعا أيضا بمناسبة توقيع ميثاق الهجرة العالمي بمراكش في دجنبر 2018، إلا أن بروتوكول الفاتيكان يقضي بضرورة زيارة البابا أولا إلى البلدان قبل حضور أي مؤتمر فيها، مما حال دون حضور البابا فرانسيس الأول إلى مراكش لتوقيع الميثاق العالمي للهجرة في دجنبر 2018.
الأهمية الرمزية لزيارة بابا الفاتيكان
بعيدا عن برنامج الزيارة الذي نشره الفاتيكان، فإن زيارة البابا إلى المغرب تختلف عن مثيلاتها، سـواء إلى الأردن لسنة 2014 أو إلى الأزهر الشريف في أبريل 2017 أو إلى الإمارات في فبراير 2019، وتختلف سواء من حيث اللحظة التاريخية أو من حيث رمزية المؤسسات الدينية.
فزيارة البابا تأتي في سياق النقاش الدائر في السنوات الأخيـرة حول ملفات تتعلق بكيفية ترسيخ ثقافة السلام والعيش المشترك ونشر ثقافة التضامن، كل ذلك في جو مشحون بتداعيات سياسية وإيديولوجية وتنامي الفكر اليميني المتطرف، وضربات الإرهاب الموجهة لكل سياسات التقارب والتضامن، دون أن ننسى تنامي موجة الكراهية تجاه الأجانب والمسلمين، وموجات الهجرة الجماعية، خاصة في سنة 2015، وكذا تحـول المجتمعات من هوية واحدة إلى متنوعة لغويا ودينيا وثقافيا بفعل الهجرات العالمية.
وقد ساهمت كل هذه التحولات في بروز مكانة حـوار الحضارات أو حوار الأديان أو حوار الشرق والغرب، وجعلت من هذا النقاش محورا أساسيا لعدد من الندوات والمؤتمرات الدولية شارك فيها، إلى جانب الفاعل السياسي والمثقفين أيضا، ممثلو مختلف الديانات في العالـم، نذكر منها مؤتمر مراكش حول الأقليات الدينية سـنة 2016، ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة في أبو ظبي ماي 2017.
من جهة أخرى، فإن أهمية زيارة بابا الفاتيكان إلى المغرب تكمن في كونها ستكون أيضا فرصة للقاء بين مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية ومؤسسة إمارة المؤمنين، مع كل ما تحمله هذه الأخيرة من رمزية عميقة تمتد في التاريخ الإسلامي، والنموذج المجتمعي الذي تقدمه للعالم، خصوصا فيما يتعلق بتنظيم علاقة المسلمين بأهل الكتاب في المجتمعات متعددة الديانات.
وإذا كان الفاتيكان يحتفل هذه الأيام بالذكرى الثمانمائة (800) لزيارة القديس فرانسيس داسيزي إلى مصر ولقائه الملك الكامل سنـة 1219 واعتباره رمزا للسلام والتعايش وحوار الديانات، وهي الذكرى التي تم تخليدها بإصدار طابع بريدي في مارس 2019 يؤرخ لهذا اللقاء التاريخي، فـان التاريخ حافل أيضا بعلاقات متميزة بين المملكة المغربية الشريفة وبين إيطاليا والفاتيكان، ويكفي أن نذكر مثلا الشريف الإدريسي السبتي المغربي الذي وضع أول خريطة عالمية انطلاقا من صقلية وعلاقته بملكها روجار، وكـذا الحسن بن محمد الوزان صاحب كتاب "وصف إفريقيا"، وعلاقته بالفاتيكان وبالبابا ليون العاشر.
إمارة المؤمنين والكنيسة الكاثوليكية
وبالرجوع إلى التاريخ دائما، نجد العديد من المحطات التي تؤرخ للحضور المسيحي في المغرب ولحُسْن الصنيع لإمارة المؤمنين مع المسيحيين، سـواء كمقيمين أو ضيوف أو حتى كأسرى. ففي عهد المولى إسماعيل، أصدر السلطان ظهيرا في 8 محرم 1092 موافق 28 يناير 1681، يتعلق بتسهيل عمل الرهبان الفرنسيين بالمملكة الشريفة، وما تلا ذلك من تبادل للرسائل التي تخص الشأن الديني مع الملك الفرنسي لويس الرابع عشر؛ كما يتجسد الحضور المسيحي في المغرب من خلال موناستير تـُــومْللين، الدير الذي شيد سنة 1952 قرب مدينة أزرو، والذي شكل مكان إلتقاء عالمي للأديان والحضارات بجميع الأيديولوجيات السياسية والفكرية.
ووفاء لهذا التاريخ المغربي الزاخر بحماية إمارة المؤمنين للمسيحيين في المغرب وضمان ممارسة شعائرهم الدينية، فإن الرؤيـة المتجددة لأمير المؤمنين الملك محمد السادس للشأن الديني جعلت مسألـة العناية بالكنائس، سواء الكاثوليكية أو البروتيسانية أو الأرثودوكسية، والبيْعات اليهودية، وكذا المقابر المخصصة سواء للطائفة المسيحية أو اليهودية المتواجدة في كل ربوع المملكة الشريفة، أولوية مهمة وعنوانا للتسامح الديني والتطبيق الفعلي للعيش المشترك.
كـل هـذا الزخم التاريخي سيجعل من لقـاء مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية بمؤسسة إمارة المؤمنين يومي 30 و31 مارس الجاري لـقـاءً من نوع خاص، حيث يمكنهما معالجة العديد من الأسئلة الحارقة كالهجرة والإرهاب والعنصرية والتضييق على المهاجرين، وتشجيع خطابات السلام والتضامن وتشجيع فـرص السلام والأخوة الإنسانية، وتوسيع مساحة الحوار ولغة التفاوض السلمي، باستعمال الـقوة الرمزية للمؤستـتيْـن الـدينيتيـن، أي البابوية وإمارة المؤمنين، فيما يعرف بالـدبلوماسية الدينية.
ولن تكون زيارة البابا المقبلة الأولى من نوعها لمسؤول من هذا الحجم إلى المملكة المغربية، ففي أبريل من سنة 1980 قام أميـر المؤمنين الحسن الثاني رحمه الله بـزيارة رسمية إلى الفاتيكان، مقر الكنيسة الكاثوليكية، ليستقبل بدوره سنة 1985 البابا يوحنا بولس الثاني بالمغرب في مشهد شعبي رهيب.
عبد الله بوصوف