سيكون من الصعب على السلطات الموريتانية الادعاء أنها بعيدة عن مؤامرة مايجري في منطقة الكركرات، فوصول مجموعة أفراد من البوليساريو في اليومين الماضيين إلى المحيط الأطلسي يكشف بوضوح أن الجارة الجنوبية للمغرب لها يد فيما يجري،لأن الوصول إلى شواطئ المحيط الأطلسي لا يمكن أن يتم إلا بسماح الجيش الموريتاني الموجود في شمال البلاد، لأفراد من مخيمات تندوف بالدخول عبر الأراضي الموريتانية للوصول لشواطئ المحيط الأطلسي، أو السماح لأفراد من البوليساريو موجودين فوق الأراضي الموريتانية بالتسرب نحو المنطقة البحرية التي نشروا فيها صورا وهم يكتشفون البحر لأول مرة.
”شفيق مصباح” يُنفذ المخططات الجزائرية من فوق الأراضي الموريتانية
وبذلك، فالسلطات الموريتانية الجديدة تعود لنفس أسلوب الاستفزاز الذي مارسه الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبدالعزيز، اتجاه المغرب إرضاء للجزائر، لمَّا سمح لإبراهيم غالي، منذ ثلاث سنوات بالوصول إلى نفس الشواطئ على المحيط الأطلسي والتقاط صور رفقة مليشياته.
لكن يبدو الأمر هذه المرة مختلفا، لأن السلطات الموريتانية دخلت في مغامرة مناوراتية خطيرة ضد المغرب، بدأت مع محمد ولد عبدالعزيز، وتطورت أكثر مع الرئاسة الجديدة منذ يونيو الماضي، تاريخ زيارة وفد جزائري ”واسع“ لنواكشوط، كما وصفه وزير الخارجية الموريتاني لحظتها، والذي يبدو أنه فوجئ بعدد المسؤولين في الحكومة والمخابرات الجزائرية الذين رافقوا صبري بوقادوم إلى موريتانيا، زيارة لم يكن موضوعها دعم موريتانيا ضد كورونا، كما تم توصيفها في بيانات رسمية، ولكن الأمر يتعلق بتنسيق إقليمي لخطة أعدتها المخابرات الجزائرية وأسندتها لرجل المخابرات العسكرية شفيق مصباح لتطبيقها مع المسؤولين الأمنيين الموريتانيين.
والدليل على ذلك، أن مسؤول المخابرات الجزائرية، مصباح، زار موريتانيا منذ يونيو الماضي، ثلاث مرات، منها زيارتين متتاليتين في شهر أكتوبر الماضي، وهي الزيارات التي سبقت بأيام قليلة وصول مليشيات البوليساريو إلى معبر الكركرات.
وشفيق مصباح هذا، رجل المخابرات العسكرية الجزائرية، ينتمي إلى تلاميذ الجنرال توفيق مدين، المهندس لكل المناورات ضد المغرب، في المناطق الجنوبية بدفع الانفصاليين نحو الاحتجاج والقيام بأعمال تخريبية، طيلة السنوات الممتدة من 1992 إلى حين إعفائه في سنة 2015، مرورا بترتيبه لعملية أطلس أسني الإرهابية بمراكش في صيف1994. شفيق مصباح تولى منذ تعيينه، ملفاً يهدف إلى تحقيق مزيد من الاختراق لموريتانيا، والاستمرار في الحفاظ على الاستمالة التي قامت بها المخابرات الجزائرية للرئيس السابق ولد عبدالعزيز، وأنصاره الذين لازالوا موجودين في محيط الرئيس الجديد ولد الغزواني.
إشارات موريتانية سابقة على مؤامرة الكركرات
ومن الواضح، أن مخطط المخابرات العسكرية الجزائرية الذي يُنفذه شفيق مصباح من فوق الأراضي الموريتانية، سبقته إشارات موريتانية ساعدت على سهولة التنفيذ، فالمتابع لعلاقات البوليساريو بالسلطات الموريتانية، يُلاحظ عدد الزيارات التي قامت بها قيادات من البوليساريو إلى موريتانيا، ولقاءاتها بالموريتانيين منذ صعود الرئيس ولد الغزواني، أيضا رسائل المجاملات بين الرئاسة الموريتانية وجبهة البوليساريو.
فرسالة شهر ماي الماضي، التي وصلت إلى إبراهيم غالي من الرئيس الموريتاني، لا يمكن المرور عليها بطريقة عادية، وهي الرسالة التي أقام لها البوليساريو احتفالا كبيرا غير معهود في المواقع التابعة له، فالأمر يتعلق برسالة فيها انحياز موريتاني خطير للبوليساريو، وتراجعٌ عن ما صرح به وزير الخارجية الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد في بداية حكم الرئيس محمد ولد الغزواني بخصوص ملف الصحراء.
وتبين فيما بعد، أن الأمر أكثر من مبادرة استفزازية قام بها رجالات محيط الرئيس الموريتاني الجديد، الذين لازالوا يشتغلون بأوامر الرئيس القديم محمد ولد عبد العزيز الموالي للجزائر، وإنما انحياز للبوليساريو من طرف الرئاسة الموريتانية الجديدة، لأنه سبقتها تأكيدات الرئيس الموريتاني الاعتراف بالبوليساريو، ولم يعد الأمر اليوم مرتبطا بما كان يقال إنه تناقضات موجودة في السياسة الخارجية الموريتانية، بل نوجد اليوم أمام حالة تقارب شديد بين البوليساريو وموريتانيا، استغلته الجزائر للقيام بالمزيد من الاختراق في الداخل الموريتاني، لترتيب مخططات في شمال موريتانيا وفي المنطقة العازلة، وإيصال أفراد من البوليساريو إلى المحيط الأطلسي بمساعدة من السلطات الموريتانية.
الجزائر في حملة سيكولوجية للتأثير وغسل دماغ ضد التاريخ: ” المغرب وموريتانيا مجرد علاقة طماطم وبصل”
ويبدو أن هذا العسكري شفيق مصباح حمل معه إلى الموريتانيين خطة مناورة سياسية واقتصادية تقضي بسكوت موريتانيا، وكأنها غير معنية بمعبر تجاري يشكل أحد مقوماتها الجيو استراتيجية وروافدها التجارية وضمانات أمنها الغذائي، وفي نفس الوقت، يقوم شفيق مصباح بتمويل حملة إعلامية تضليلية ضخمة، تُحاول أن تجعل من العلاقات المغربية الموريتانية بكل دلالاتها التاريخية مجرد علاقة ”طماطم وبصل”، كما تروج لذلك شبكات تواصل اجتماعي في موريتانيا والجزائر.
يضاف إلى ذلك، أن المخابرات العسكرية الجزائرية، بقيادة شفيق مصباح والجنرال يوسف بوزيت، تروج للاتفاقية التي أبرمت بين موريتانيا والبوليساريو في سنة 1979، بالجزائر بعد الحرب بينهما، وفي نفس الوقت يُطلق ابراهيم غالي، تصريحا خطيرا يهدد فيه موريتانيا، بالقول إن موريتانيا ستكون المتضرر الأول في حالة ما إذا عاد ملف الصحراء إلى مرحلة ماقبل وقف إطلاق النار لعام 1991، فالبوليساريو ينشر أفراده في المنطقة العازلة، ويقطع طريق معبر الكركرات ويهدد موريتانيا، وتقوم المخابرات الجزائرية بنشر مقولة علاقات ”طماطم وبصل“، مع المغرب، وهو مشهد يُبين أن موريتانيا غير مستوعبة لما يحاك ضد أمنها القومي، فالجزائر تقود حربا لها أهداف تضرب العمق الموريتاني، هذه الحرب تريد بها تغيير تاريخ موريتانيا بربطها بالجزائر والبوليساريو، وقد لاحظنا كيف بدأ تأبين رموز موريتانيين في العاصمة الجزائرية، وكيف جعلت الجزائر هويته هذه الرموز مقسومة بين البوليساريو وموريتانيا.
والجزائر أنجزت طريق تندوف-شوم بعد أن بدأت في تغيير البنية الديمغرافية في الشمال والشمال الشرقي الموريتاني، الذي بات يتحول الى منطقة رمادية غامضة قد تتفاجأ موريتانيا بوجود الجيش الجزائري والبوليساريو، داخله بحجج مختلفة، هذا الطريق الذي يدل على أن أطماع الجزائر في الوصول إلى المحيط الأطلسي لم تنته، وسيكون الشمال الموريتاني هو الممر نحو الأطلسي، فالبوليساريو الآن بات يُستعمل كواجهة أمامية للجيش الجزائري.
ومن الواضح، أن هذا الضغط على الشمال الشرقي والشمال الموريتاني بخلق منطقة عائمة سيكون له تأثير داخل موريتانيا، التي يتابع جنوبها مايجري في الشمال، وإذا كانت الجزائر قد قامت بتحريض عريض لمجموعة مواقع في الشبكات الاجتماعية الموريتانية بزرع أفراد من البوليساريو يروجون لفكرة ”علاقة الطماطم والبصل”، فإن الموريتانيين لم ينتبهوا إلى أن مشاكل معبر الكركرات، إذا ما استمر السكوت الموريتاني وذهابه في مخطط الجزائر، سيكون لها تأثير على الجنوب الموريتاني قبل الشمال، ولا أحد يعرف كيف سيكون رد فعل الجنوب الموريتاني على سكوت السلطات، وعلى التحريض الجزائري الذي يحاول قطع الصلة بين معبر الكركرات وجنوب موريتانيا، الذي يعني قطع علاقة حيوية لموريتانيا بباقي الشريط الممتد نحو غرب إفريقيا، فالجزائر تستهدف قطع الشمال الموريتاني عن جنوبه بنشر مليشيات البوليساريو في معبر الكركرات وهم يحملون الأعلام الجزائرية.
ومعبر الكركرات ليس مجرد طريق تجاري لنقل المنتوجات نحو موريتانيا وغرب إفريقيا، بل طريق إستراتيجي يُهدد إغلاقه الموقع الجيو إستراتيجي لموريتانيا أولا، والذين يقولون بـ“طماطم وبصل”، لم ينتبهوا إلى أن الجزائر شرعت في نقل خضروات عبر طائرات نحو موريتانيا، وهذه أول مؤشرات حصار تضربه الجزائر والبوليساريو على موريتانيا، وحتى الذهاب مع الفرضية الخاطئة للتضليل بمقولة “علاقة طماطم وبصل”، فإن الجزائر ليس لها بصل وطماطم لتقديمها للموريتانيين وهم يشاهدون الجزائريين في طوابير وصفوف يتسلمون البطاطا والحليب من الجيش.
والذي لم يقرأه الموريتانيون، أن مساعي إغلاق معبر الكركرات من طرف الجزائر والبوليساريو، هي بداية عزل الشمال الموريتاني عن جنوبه، وبداية مخطط جزائري بتغيير ديمغرافي للشمال الموريتاني يحمل مشروع توطين.
عبد الرحيم المنار اسليمي
رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني