Partager sur :

الامتحان الوطني لمادة الفلسفة....ماذا وقع ...؟

بقلم إبراهيم أونبارك  مفتش منسق جهوي تخصصي، أكاديمية الرباط سلا القنيطرة
ملاحظة: هذا المقال، أو بالأحرى محاولة٠ للتفكير بصوت مرتفع، تهدف إماطة اللثام عما يختلجني، ولا يستهدف التقليل من المجهودات المبذولة في جعل مادة الفلسفة تتبوأ المكانة التي وصلت إليها، كمكون معرفي، يُختبر فيه التلاميذ في امتحان إشهادي واستحقاق وطني حاسم، كما لا يبتغي المقال التقليص أو التنقيص من المجهودات الجبارة التي يقوم بها "المركز الوطني للامتحانات المدرسية وتقييم التعلمات" بغية الحفاظ على مكانة البكالوريا الوطنية ومصداقيتها، المعترف بها محليا ودوليا، كما لا أتوخى التقليل من المجهود الكبير الذي تبذله "اللجنة الوطنية الخاصة بإعداد مواضيع الامتحان الوطني لنيل شهادة البكالوريا: تخصص الفلسفة"، بغية إنتاج مواضيع وفق الشروط المطلوبة، في ظل الكثير من الإكراهات والتحديات.

تسلَّل الهمز واللمز ، الشد والجذب إلى شرايين الأسر، فكان النقاش غنيا بين الأبناء والآباء، بين التلاميذ بمجرد خروجهم من الفصول الدراسية يوم الجمعة 30 ماي 2025 قرابة الساعة الخامسة بعد الزوال، لاسيما بعد استهلالات باستعطاف إيماني، رافق صلاة الجمعة، كلها تنادي بصوت مسموع:" يارب أن نجد في امتحان الفلسفة المجزوءة التي قمنا بإعدادها، ولا يهمنا غيرها". لكن المفاجأة كانت عكس المنتظر، وكان الحل، هو لابد من "إسقاط الطائرة في البستان"، فقال المتعلم أنذاك: "لنكتب ما قمنا بإعداده سلفا، بغض النظر عن الموضوع الذي طُلب منا تحليله ومناقشته.
هذه ليست حَكْيا لحدثٍ عابرٍ، وإنما تنم عن وضعية بحمولة تربوية ونفسية واجتماعية، تستحق الكثير من التفكير والـتأمل.  ليتضح -من بين ما اتضح- أن مواضيع الامتحان الوطني، عموما، لا تنال نصيبها من نقاش المتخصصين، سواء من طرف الأساتذة أو من لدن هيئة التفتيش والتأطير والمراقبة والتقييم، أكثر من ذاك النقاش الذي يثيره كل من له علاقة (أو دون علاقة) بتمثلات جمة، تغني سوق مواقع التواصل الاجتماعي بـ "نيات" واحتمالات لا تنتج سوى "شذرات" هنا وهناك.  وهذا يسائلنا  جميعا حول مدى وجود تراكم في تشخيص أعطاب التقييم في مختلف مواد الامتحان الوطني، وأيضا مكمن قوتها وضعفها.
لذا، اتجه مجرى المداد هذه المرة إلى الفلسفة، ليقطر بالنسبة للبعض طلاسم تأييد الجرأة التي امتلكتها اللجنة الوطنية لإعداد مواضيع مادة الفلسفة قصد تكسير العادة. بينما البعض الآخر وَجَّه أسهم النقد اللاذع لها، معللا ذاك بكون مواضيع مادة الفلسفة، لاسيما تلك الموجَّهة للشعب العلمية، تَخلَّلها الكثير من عدم الانضباط للأطر المرجعية والتوجيهات  التربوية، بل هناك من أشار إلى أن الامتحان لم يحترم نفسية المتعلم وميولاته التربوية وبعده النفسي، بل وحتى وضع الآباء والأمهات وما يكابدونه جراء الإعداد لهذا الامتحان.
أظن أن ما وقع من "تفاعل" أو "حرارة فايسبوكية" ،ليس سوى نتاج "أرث ثقيل" من الانزياحات التي لا يتسع المقام للتفكيك فيها، وقد ناقشنها شفهيا وكتابة، غير ما مرة. لكن سنقف عند أبعاد عِدَّة بصيغ مقتضبة، ولن تكون إلا محاولة فتح مجال التفكير أكثر في أسئلة مهمة، منها:
-    ما الذي حدث فعلا في مادة الفلسفة، هل هو مجرد تعديلات طفيفة في صياغة المواضيع، سعيا من اللجنة للإنفلات من التنميط الذي كرس  القولات والأسئلة المفتوحة ذاتها؟ 
-    هل الغموض والتعابير الفضفاضة وغير الدقيقة المتضمنة في التوجيهات التربوية والأطر المرجعية( رغم التصويبات التي تخضع لها هذه الأخيرة بين فينة وأخرى)، هي السبب؟ وأن اللجنة الوطنية لم تقم إلا بمجهود،  وِفق ما يمليه فهمها لتلك التأويلات؟ وأن ما قامت به ليس سوى تفعيل " نية صادقة" لتجويد تقويم  المادة، أم أن واضعي اختبار مادة الفلسفة يبتغون فعلا الانفلات من "المنتظر" من طرف المتعلمين؟ ومن حق أي كان أن يتسأل أيضا: وهل "المنتظر" ليس في حد ذاته "تمكينا بيداغوجيا" يسمح للمتعلمين بعدم التيْه، وأنه يندرج ضمن التعاقد المعرفي والديداكتيكي الذي كان لهذا المتعلم(ة) مع من كان يدرسه المادة طيلة السنة الدراسية؟
-    أليست هناك "مغالاة" في تضخيم "صدمة الاختبار"، والتي تعود في مجملها إلى أجواء الامتحان  في حد ذاته؟ وخصوصا إلى "إهمال" تلاميذ الشعب العلمية لمادة الفلسفة إلى حين اقتراب الامتحان؟ لذا، فهُم يروْن أن من وضع اختبار مادة الفلسفة مخطئ بالضرورة، لأنه لا يساير أهواء التلميذ وضعفه وتهاونه في الإعداد الجيد لمادة دراسية تستحق المزيد من الاهتمام والتقدير.
وللاقتراب أكثر من هذه الأسئلة/ التجليات التي باتت تظهر بعد كل استحقاق وطني، وأكيد ستتكرر (ما دمنا لمم نتمكن بعد من تجاوز الكثير من الاختلالات)، ويمكن إعادة تفكيك الوضع وفق الأبعاد الآتية:
    البناء العام للتقييم في مادة الفلسفة: تحضر إلى بالي تلك المقولة الدارجة التي تُردد بتعابير كثيرة منها: " لا توْلف عادة، لا تقْطع عادة، عليها تعادَة"، وهذا يسري تماما على تعوُّد أجيال متعاقبة، على  وجود مجزوءات محددة، صيغ معينة، إلى حد أصبحت بالنسبة للمتعلمين ولبعض المدرسين" نموذجا" يجب عدم الخروج عنه، وإلا فنحن نجازف بمكانة المادة. لذا، لم يتقبل المتعلم(ة) وأستاذه أن يتم وضع سؤال مفتوح دون مرجعية مسبقة، أو على الأقل مذكرة توضيحية، تبين أن "الأطروحة المفترضة " لن تكون دائما وفق صيغة "الوجه الظاهر في السؤال"، وهو ما أضحى قاعدة بسيطة لدى المتعلم: " حذف أداة وعلامة الاستفهام فقط". بل يمكن أن تكون سؤالا مفتوحا بأطروحات مفترضة محتملة، وللمتعلم الحق في الانطلاق من إحداها. لكن هذا التوجه سيطرح تحديات تقييمية عدة، سبق وأن استفحلت معضلتها في مواضيع ما قبل 2015 وتثير الكثير من اللغط يصل حد وصف اللجن الوطنية أنها بعيدة كل البعد عما يدرَّس في الفصول الدراسية( لازال مثال: "ما الدولة؟ "حاضرا في الأذهان).
    تغطية مضامين المقرر الدراسي: أثير النقاش حول مدى احترام الامتحان الوطني لمادة الفلسفة ( الدورة العادية 2025: الشعب العلمية) لتغطية البرنامج الدراسي، سواء في بعده المضموني/ المعرفي أو المفاهيمي أو الإشكالي، ليتبين، بالنسبة للبعض أن اختزال أكثر من %90  من الاختبار في مجزوءة واحدة( سؤال مفتوح ونص للتحليل والمناقشة) ووضع قولة بتركيبة مفاهيمية حاضرة في أكثر من مفهوم/ درس. وأكثر من محور وأكثر من مجزوءة، لن ينتج إلا تأويلات غير سليمة للمعالجة الإنشائية الموجهة بمطالب محددة نظريا، لكنها غامضة تنفيذيا.
وهنا يمكن القول: "ربما" يرى واضعوا الامتحان الإشهادي في مادة الفلسفة أن صيغة القولة تضمنت مفهومين مركزيين، ( الحرية ، المواطن)، هما بمثابة تغطية لكافة المضامين المقررة لكونها موجودة في كل المجزوءات والدروس/ المفاهيم، ومن هنا، يمكن معالجة الموضوع وفق ثنائية الحرية/ المواطن داخل مجزوءة الأخلاق، السياسة أو الوضع البشري. لكن هذه "النية الحسنة" ستنتفي مع قراءة السؤال المرفق أو "السؤال الموَجِّه"، لأن كاتبه يرغب فعلا في تصويب القولة نحو معالجتها من زاوية الحرية والقانون( هناك إشكال كبير حينما يُدرج مفهوم لا تتضمنه القولة داخل سؤال مرفق، وإلا فنحن أمام موضوعين ولسنا البتة أمام موضوع واحد)، وهو محور صريح ضمن مفهوم "الحرية" المتضمَّن داخل مجزوءة الأخلاق.
بل حتى وإن افترضنا أن الموضوعات مبنية على السماح بقدرات المتعلم(ة) الإبداعية،  في أن يستغل كل المجزوءات وكل المحاور والإشكاليات، قصد كتابة إنشاء فلسفي أشمل، في إطار تساؤلات محددة، وهو ذاته ما تدعمه الكثير من العبارات الموجودة ضمن عناصر الإجابة، ليس فقط في السنة الجارية، بل في السنوات الماضية أيضا. فالسؤال المزعج حقا هو: هل فعلا تم تدريس التلميذ(ة)، لاسيما متعلم الشعب العلمية ليكتب موضوعا وكليا ويمس المقرر الدراسي في شموليته ؟ وكيف سيتقبل الأستاذ المصحح ذلك، وكيف سيؤوله؟ وهل عبارة "...أن يراعي المصحح في تقويمه بالدرجة الأولى المجهود الشخصي المبني للتلميذ في ضوء روح منهاج مادة الفلسفة..."؟ تكفي؟  ألا يمكن لهذا أن يفتح أمامنا مشكلة توحيد "رؤى التقييم"، لأن ما سيكتبه التلميذ سيصبح بالتالي صحيحا مهما كانت زاوية المعالجة، إلى حد كبير، وهنا سيصبح شعار المتعلمين، مع اعتذار مسبق على الكلمات المستعملة، لكني وجدتها ذات معنى بما فيه الكفاية: " الفلسفة ساهْلة، فيمَّا ضربتِ القرْع إسيل دمو".
    تقسيم عشوائي لمحاور بعض المفاهيم المدرَّسة: عدم وضوح التوزيع الحالي للمحاور داخل العديد من الدروس المقررة، ساهم في هذا النقاش الدائر، وكذلك كان منذ  مدة. وهذا تجلي أساسا في الموضوعين المطروحين ضمن مجزوءة المعرفة، حيث أبانت معالجة  الزوج المفاهيمي "النظرية والتجربة"  وفق: التجربة والتجريب، العقلانية العلمية ومعايير علمية النظرية العلمية، أنه ليس بتقسيم ملائم، فمن منطلق ابستيمولوجي، هو محور واحد، إشكالية واحدة  مغزاها: ما هو المعيار الملائم للتمييز بين النظرية العلمية وما دونها؟ أما اقحام مفهوم التجريب فما هو إلا ترجمة مباشرة لمفهوم  expérimentation  ، الذي كان مفهوما مركزيا في في المقرر الدراسي الخاص بتدريس الفلسفة داخل المنظومة التربوية الفرنسية ولمدة طويلة.  لكنه وُضع في مقررتنا بمعالجة أدبية littéraire  ، مما أفقده العمق العلمي الذي يُستمد خصوصا  من الرياضيات والفيزياء، لذا كان من البديهي عيش هذا الاختيار غير المحدود لأسئلة مفتوحة يجد المدرس صعوبة لمس الخيوط الفاصلة بينها، وذاته الخلل  الذي ينتقل إلى متعلم يُطلب منه أن يُحدد المحور المناسب وإلا فـ "هوس" ما يصطلح عليه بـ "خارج الموضوع" سيهدده لا محالة.
وهو الأمر ذاته الذي يسري على "درس الحقيقة" الذي كان بدوره موضوعا  في صيغة نص، نجح واضعوه في احترام إطار اختيار النصوص إلى حد كبير، لكن أرضية المفهوم المدرَّس داخل الفصل الدراسي كان أصلا دون أسس واضحة في هذه المعالجة، وطبعا، هناك مبدأ في التمكين البيداغوجي يقول:" إذا عمَّ المعرفة غموض، فتقييم المعرفة مجرد اختبار للأهواء". فمفهوم الحقيقة، مثلما هو موضوع في المقرر، ليس سوى مدخلا واحدا في الأصل: الحقيقة وأضدادها (حتى من منطلق معايير الحقيقة)، ولا يتسع المقام للتفصيل في المنزلقات المرتبطة بهذه العناوين التي تكاد تكون مضمونا واحدا، في محاور بجمل متداخلة في صيغتها على الأقل.
وكل هذا الغموض الذي يلف بمضامين ومنطلقات بنائها، هو ما أفرز كل هذا التناقض الذي انتقل إلى تأزيم معرفي وبيداغوجي وديداكتيكي لدى المدرس، وهو ذاته، في نظري، الذي وضع اللجنة الخاصة بإعداد المواضيع أمام تحد، ليس من السهل الخروج منه دون هذا النقاش، ومردُّه عموما:  هل نطبق حرفيا ما تمليه الأطر المرجعية المبنية على وثيقة التوجيهات التربوية، والتي استندت بدورها إلى فحوى دفتر تحملات، نتج عنه مقرر دراسي وبرامج وكتب مدرسية، ومنه جاءت المضامين التي نحن بصدد اختبارها الآن؟، أو تغامر اللجنة في تكسير العادة عبر " قليل من الإبداع  الخفيف، والكثير من المجازفة"، فتغير في ذاك الذي لا يقبل التغيير في درس فلسفي أصبح رتيبا بما فيه الكفاية؟ ويدعونا جميعا إلى إعادة صياغة مفاهيمه وإشكالياته وطرق تدريسه، غيرةً على الدرس الفلسفي ودفاعًا عن الفلسفة.

Partager sur :