Partager sur :

الجزائر ومعضلة الاندماج المغاربي، أي رهانات للمصالحة الجيوسياسية في ظل المبادرة الأمريكية.

 

ظل النزاع المفتعل في الصحراء المغربية، الذي تقف وراءه الجزائر عبر عقود من الدعم السياسي واللوجستي لجبهة بوليساريو الإرهابية ، العقبة في مسار بناء صرح مغاربي مندمج وفاعل. هذا الصراع المفتعل، الذي لا يجد له سندا لا في التاريخ ولا في الشرعية الدولية، عرقل منذ أواخر القرن العشرين كل المبادرات الهادفة إلى إرساء تعاون إقليمي حقيقي، ووأد في المهد حلم إتحاد مغاربي كقوة إقليمية فاعلة في المشهد الإقليمي والدولي، الإتحاد الذي تأسس سنة 1989 بوصفه إطارا واعدا لوحدة الشعوب المغاربية وتكامل قدراتها.
لكن سرعان ما تحول هذا الحلم الجماعي إلى كيان شكلي مجمد، لا يحركه سوى صدور البلاغات البروتوكولية، وذلك بسبب تعنت النظام الجزائري وتمسكه بخيار التصعيد ، في وقت كانت شعوب المنطقة تتطلع إلى تحقيق التنمية، وبناء سوق إقليمية موحدة، وتطوير آليات تنسيق في مجالات الأمن، والماء، والطاقة، والتغير المناخي، والهجرة غير النظامية، ومكافحة الإرهاب.

لقد ظل القرار الجزائري حبيس نظرة ضيقة ترى في الوحدة المغاربية خطرا على طموحاتها ، وليس مشروعا حضاريا قائما على المصالح المشتركة والمصير الموحد.
التقارير الاقتصادية الدولية، الصادرة عن مؤسسات مرموقة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لا تكاد تخفي خيبة الأمل من الوضع الكارثي الذي آلت إليه مؤشرات الاندماج المغاربي، حيث لا تتجاوز المبادلات التجارية بين دوله 5%، في وقت تصل فيه هذه النسبة إلى أزيد من 60% داخل الاتحاد الأوروبي، و35% بين دول شرق آسيا.
والمغرب باعتباره الفاعل الأكثر انفتاحا وتقدما في المنطقة، يجد نفسه محروما من فضائه الطبيعي، بفعل إغلاق الحدود وتجميد الهياكل المشتركة، وغياب الإرادة السياسية لدى الجار الشرقي، الذي لم يتردد في تحويل قضية الصحراء إلى عقيدة سياسية داخلية، ومصدر تعبئة ضد "العدو الخارجي"، فزاعة يلهي بها شعبه ، كلما إشتدت أزمات الشرعية ، وتحرك الشارع الجزائري للمطالبة بالديمقراطية والعدالة الإجتماعية.

غير أن المستجدات الجيوسياسية الأخيرة، وخاصة التحركات الأمريكية الجديدة الساعية إلى تقريب وجهات النظر بين المغرب والجزائر، تعيد طرح السؤال حول إمكانية إحياء روح التعاون المغاربي، خارج منطق الهيمنة والعداء العقيم . فواشنطن، بعد أن رسخت إعترافها بمغربية الصحراء، أبدت مؤخراً، عبر قنواتها الدبلوماسية، رغبة في رعاية حوار إستراتيجي بين الرباط والجزائر، في أفق إعادة فتح قنوات التواصل وبحث آليات تخفيف التوتر، بما يخدم إستقرار المنطقة، ويعيد ترتيب الأولويات على أساس مواجهة التحديات المشتركة.
مبادرة الإدارة الأمريكية، وإن كانت ما تزال في مهدها، إلا أنها تحمل دلالات عميقة، خصوصا إذا ما إقترنت بوعي جزائري داخلي جديد، يدرك أن الرهان على الإنفصال بات خاسرا، وأن إستمرار معاكسة الوحدة الترابية للمغرب لا يخدم سوى أجندات معادية للإستقرار الإقليمي، سواء من خارج المنطقة أو من داخلها عبر أدوات مشبوهة. كما أن التحولات العالمية، وما تفرضه من إنكباب على الأمن الطاقي والغذائي والمائي، تستدعي من الدول المغاربية تجاوز الحساسيات المصطنعة والأيديولوجية الماقتة والتي تعود لزمن الحرب الباردة ، والعمل على بلورة تكتل إقليمي متماسك، يملك قراره ويستثمر موارده وموقعه الجغرافي ومؤهلاته البشرية.
إن أي إستشراف لهذا المسار، يفترض أولا تخلي الجزائر عن منطق المناورة والوصاية، وإعترافها بحتمية الجغرافيا وشرعية التاريخ، لأن بناء إتحاد مغاربي قوي ليس ترفا سياسيا، بل ضرورة وجودية في عالم لا يعترف سوى بالكيانات الكبرى، ولا يرحم التكتلات المتناثرة. كما يفرض منا كمملكة حقق تميزا وصدارة إقليمية ودولية وراكمت الانتصارات الديبلوماسية، أن يواصل انفتاحها الذكي، القائم على الثوابت الوطنية والمرونة الدبلوماسية، وأن تدفع في سياستها الداخلية تحقيق المزيد من مكتسبات التنمية و حماية الوحدة الوطنية.

ختاما ، لقد دقت ساعة حسم مشكل الصحراء المفتعل ، إن بزوغ شمس الحقيقة وسقوط الأساطير الجزائرية ، لا يعني فقط طي صفحة من التوتر الإقليمي المفتعل، بل هو مدخل لإطلاق دينامية وحدوية قادرة على إعادة تشكيل مستقبل مغاربي جديد، يحرر الطاقات، ويداوي جراح الماضي، ويمنح للأجيال القادمة فرصة العيش في ظل السلام والكرامة والتكامل والتعايش ، بعيدا عن أوهام التقسيم وسياسات العرقلة العقيمة.

ذ/ الحسين بكار السباعي
محام وباحث في الهجرة وحقوق الإنسان
النائب الأول لرئيس المرصد الوطني للدراسات الإستراتيجية.

Partager sur :