
📍جنيف، سويسرا
ظاهرة استغلال الأطفال في المحتوى الرقمي بالمغرب
في ظل الانتشار الواسع للمحتوى الرقمي على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما موقع يوتيوب في المغرب، برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة مقلقة تتمثل في استغلال الأطفال بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال توثيق حياتهم اليومية وجعلهم طرفًا رئيسيًا في محتوى يُدرّ أرباحًا مادية على صانعيه.
إن تحقيق الربح من توثيق حياة الطفل اليومية، أو مجرد استخدام صورته أو صوته أو وجوده في مقاطع الفيديو لأغراض تجارية، يُعد شكلاً من أشكال الاستغلال، حتى وإن بدا المحتوى “عادياً” أو خالياً من مظاهر العنف أو الضرر الواضح.
وقد يرقى هذا الفعل إلى شبهة الاتجار بالبشر الرقمي، خاصة عندما يتم استغلال ضعف الطفل أو غياب وعيه الكامل بما يحدث، مع تحقيق مكاسب مالية تعود للبالغين أو الجهة المنتجة للمحتوى.
وفقًا لتعريف بروتوكول باليرمو لمكافحة الاتجار بالبشر، فإن الجريمة تتحقق بتوافر ثلاثة عناصر أساسية:
- العمل: مثل النقل، التجنيد، الإيواء، أو الاستخدام، وهو ما ينطبق في سياق المحتوى الرقمي على استخدام الطفل داخل المحتوى المصوّر لأغراض مختلفة.
- الوسيلة: كالإكراه، أو الاحتيال، أو استغلال الضعف.
- الغرض: وهو الاستغلال، سواء كان جنسيًا، عماليًا، أو تجاريًا بما في ذلك الاستغلال الرقمي من أجل تحقيق الربح
1. هل يشترط وجود ربح مادي لاعتبار استغلال القاصر من أجل المال؟
في هذا السياق، يُعدّ تحقيق الربح المادي عنصرًا جوهريًا في توصيف “الاستغلال من أجل المال” في معظم الأنظمة القانونية. غير أن توصيف هذا النوع من الانتهاك لا يقتصر على الجانب المالي فحسب، بل يُؤخذ بعين الاعتبار أيضًا السياق الذي يحدث فيه الفعل، والنية الكامنة وراءه، وكذلك الضرر الفعلي أو المحتمل الذي قد يُلحق بالطفل.
فحتى لو بدا المحتوى المصوّر عاديًا أو يوميًا، كتوثيق روتين الطفل أو أنشطته، فإن وجود دافع ربحي تجاري واضح، وغياب موافقة حقيقية واعية من الطفل، قد يضع هذا الفعل ضمن دائرة الشبهة القانونية، بل وقد يُرقى في بعض الحالات إلى الاستغلال المنهجي أو الاتجار بالبشر بصيغته الرقمية.
2. هل يمكن اعتبار توثيق حياة الطفل اليومية بالفيديو (حتى بدون ضرر ظاهر) استغلالًا؟
نعم، يمكن.
في القانون والاتفاقيات الدولية (مثل اتفاقية حقوق الطفل)، الاستغلال لا يعني بالضرورة وقوع ضرر جسدي مباشر، بل يشمل:
• استخدام الطفل لأغراض تجارية دون موافقته الواعية.
• عدم احترام خصوصيته أو كرامته.
• تصويره في مواقف تُستخدم لجذب المشاهدين أو تحقيق الربح.
حتى لو كانت الفيديوهات “عادية” (كروتين يومي، أكل، لعب…)، إذا كانت تُنشر وتُدرّ دخلاً، فإن الطفل يتحول إلى “منتَج رقمي”، ما يثير إشكاليات أخلاقية وقانونية.
3. متى يدخل الأمر في نطاق “الاتجار بالبشر”؟
الاتجار بالبشر (وفق بروتوكول باليرمو التابع للأمم المتحدة) يتطلب تحقق ثلاثة عناصر رئيسية.
يعتمد تعريف جريمة الاتجار بالبشر، كما ورد في بروتوكول باليرمو، على تحقق ثلاثة عناصر أساسية مترابطة:
أولاً، عنصر العمل، والذي يشمل أي عملية نقل، تجنيد، إيواء، أو استخدام لشخص، وفي هذه الحالة يكون الطفل هو الضحية.
ثانيًا، عنصر الوسيلة، ويتمثل في استخدام وسائل غير مشروعة مثل الإكراه، الاحتيال، الاستغلال، أو استغلال ضعف الضحية.
ثالثا : عنصر الغرض، وهو الاستغلال بجميع أشكاله، سواء كان استغلالًا جنسيًا، تشغيلًا قسريًا، أو أي نوع من الاستغلال التجاري، بما في ذلك الاستغلال الرقمي. فإذا اجتمعت هذه العناصر، فإن الفعل يُصنَّف ضمن الاتجار بالبشر، حتى لو لم يكن الضرر الجسدي ظاهرًا بشكل مباشر.
يُعد تحقيق الربح من توثيق حياة الطفل اليومية، أو مجرد استخدام محتواه بشكل يؤدي إلى ربح مادي، شكلاً من أشكال الاستغلال. وقد يرقى هذا الفعل إلى شبهة الاتجار بالبشر، حتى وإن خلا من عنف مباشر أو من محتوى ضار ظاهر.
4. مسؤولية مضاعفة في زمن الانفتاح الرقمي
في الوقت الذي يترأس فيه المغرب مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ويستعد لاحتضان واحد من أكبر الأحداث العالمية المرتقبة (مثل كأس العالم 2030)، تزداد مسؤولية الدولة والمجتمع في صون حقوق الطفل داخل الفضاء الرقمي، تمامًا كما تُصان في النصوص والمواثيق الدولية.
وبينما يراهن المغرب على صورته العالمية كدولة منفتحة، و يسعى إلى تقديم نفسه كوجهة حقوقية وإنسانية في العالم، فإن أول اختبار حقيقي لهذه الصورة يبدأ من الداخل، من قدرة مؤسساته على سنّ تشريعات واضحة، وتفعيل آليات الرقابة، وحماية القاصرين من أن يصبحوا أدوات ربح تحت مسمى الترفيه والمشاركة العائلية.
إن حماية الأطفال من الاستغلال الرقمي لا تقل أهمية عن حمايتهم من العنف الجسدي أو الإهمال، بل إنها اليوم تشكل أحد أبرز التحديات الحقوقية المرتبطة بالاستغلال في العصر الرقمي، والتي قد تلامس في بعض الحالات مؤشرات خطيرة على الاتجار بالبشر.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تعميق النقاش العمومي حول مستقبل الطفولة الرقمية في المغرب، بما يضمن التوازن بين حرية التعبير، ومصلحة الطفل الفضلى.
5. خاتمة: حين تُباع الطفولة بضغط زرّ
في زمن الانفتاح الرقمي، لم يعد استغلال الأطفال يحتاج إلى عصابات أو سلاسل حديدية. يكفي هاتف، وكاميرا، ومنصة مفتوحة على العالم، حتى تتحول الطفولة إلى سلعة تُعرض وتُستهلك وتُباع بضغط زرّ.
مقاطع توثّق حياة القُصّر اليومية، وجوه بريئة تُستدر بها المشاهدات، وخصوصية تُنتهك باسم “المشاركة العائلية”… كل ذلك يحدث بصمت، وبمباركة خفية من خوارزميات تُكافئ من يُنتج “الأكثر تفاعلًا” بغض النظر عن الثمن
إننا، كمجتمع مدني وأفراد معنيين بحقوق الطفل، نرفع صوتنا عالياً ونحذر من الانزلاق الخطير في استغلال الأطفال رقمياً، وهو استغلال يضرب أساس حقوقهم في براءة الطفولة وحمايتها.
إن الربح من وراء الطفولة لا يبرر أبداً أي انتهاك، ولا يمكن للعاطفة أن تُسوّغ استغلال براءة طفل أو الإضرار بمستقبله. فكل لحظة تُنتزع فيها الطفولة من حقها في الحماية والرعاية، هي لحظة يُمزق فيها نسيج إنسانيتنا ويفقد المجتمع جزءاً من ضميره.
لذلك، نطالب بإجراءات عاجلة وفاعلة تشمل:
- مراجعة شاملة للقوانين الوطنية لضمان حمايتها للأطفال من أشكال الاستغلال الرقمي الحديثة.
- تشديد الرقابة على المنصات الرقمية، التي لا يجب أن تتحول إلى فضاءات للتجارة على حساب حقوق القاصرين.
- توعية الأسر والأطراف المعنية بخطورة استخدام الأطفال في المحتوى الرقمي لأغراض الربح، وتأثير ذلك على حياتهم النفسية والاجتماعية.
- فتح تحقيقات رسمية في الحسابات والمحتويات التي تستغل الأطفال تجارياً، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات.
فحماية الأطفال ليست رفاهية، بل هي الواجب الأول والمقدس لكل مجتمع يسعى إلى العدالة والكرامة. ومن لا يحمي أطفاله اليوم، لن يكون قادراً غداً على الدفاع عن حقوق الإنسان التي يُفاخر بها