
بقلم الاستاذ إبراهيم أونبارك
باحث في قضايا التراب وإشكاليات التدبير المحلي.
أحداث مدينة سلا، التي تنمُّ عن فوضى عارمة، تعبر عن ميلاد جيل لا يعترف بالقانون ولا بالنظام ولا بالساهرين على أمن الدولة وسلامة الممتلكات، أحداث أيت بوكماز ومجهودهم النضالي الذي أتمر لوحة فنية لسيل من الرجال الذين يجرُّون ماضي الانتكاسات التنموية المتتالية، لتختلط أرجلهم بغبار المسالك الجبلية، التي تحتاج إلى من يمرر عليها بعضا من "الحديد الرقيقة" علَّها تصمد ولو لأشهر على الأقل وتنسيهم لعنة الانتظار، سقوط "معتصم" من أعلى خزان قرية من قرى بني ملال بعد أيام من بقائه معتصما، وبعد أن أشفى غليله في الأذى الذي ألحقه برجل أراد فقط أن يقوم بمهمته.
لا يمكن لأي مواطن غيورعلى هذا البلد إلا أن يلاحظ أن أذن الإنصات لصوت الشارع ولصيحات المعطوبين، وحتى لخرجات المراهقين، مصابة بالتهابات ما، وأن درجة الاستماع الجيد يشوبها خلل ما، إما في الأذن الخارجية أو الوسطى أو الداخلية بتعبير الأطباء، إذ لو تم امتلاك خطوات مسبقة لما قبل عاشوراء، ولو تم تدارك التجمعات التي كانت هنا وهناك على تراب المناطق التي أضحت بؤرا لسلوكات مشينة، لما وصلنا إلى مشاهدة مقاطع تتناقلها قنوات الداخل والخارج، ولا كنا مادة إعلامية غنية للأصدقاء قبل الأعداء، لمراهقين يرمون بأقصى ما يملكون من قوة، وما يعثرون عليه أمامهم من أحجار وعجلات مشتعلة إلى رجال ألأمن والقوات المساعدة، في مشهد مأسوي حد الألم.
لو تمت مواكبة "حرارة الاحتقان" الذي يسكن منطقة أيت بوكماز، وجس نبض ساكنة معطوبة، وتدارك الأمر من مختلف الجهات المسؤولة، وذلك عبر السرعة في وضع خلايا إنصات لممثليهم، لشبابهم، لهيئاتهم الجمعوية، والمرور للقيام بالفعل لا البقاء في الوعود، لما استغلت مواقع التوصل الاجتماعي رحلة أيت بوكماز من دواويرهم إلى مقر عمالة أزيلال لتنسب إلينا "الصالح والطالح"، وتصف مجهوداتنا بما لا نرضاه عن أنفسنا وأحلامنا وطموحتنا كشعب وكأمة تواقة إلى المزيد من التميز إقليميا ودوليا.
لو كانت أذن صاغية بعمق المواطنة على أرض قرية "معتصم" و لترابه المحلي والإقليمي والجهوي، ولو كان هناك من يمتلك زمام المبادرة ويجند كل من له المسؤولية في تخليص القرية من مشهد اعتصام الشاب فوق خزان ماء لأيام، لما صوَّرت كاميرات من هب ودب لمشاهد سريالية، سيلتقطها الصديق قبل العدو، ويلوكها القريب قبل البعيد، في تعبير مخز عن غياب شجاعة تدبيرية تقينا من مشكل تحول المشهد إلى مادة دسمة للإعلام الداخلي والخارجي.
كان من الأفضل أن نخلق أحداثا أخرى تليق بالمقام وبالمرحلة، تليق بزمان المغرب الذي نريد، كنا سنكون أكثر سعادة، لو صُوّرت مشاهد إقلاع تنموي بأيت بوكماز، تليه تصفيقات وشكر للفاعلين الترابيين، لأنهم اشتغلوا بصدق. كما سنكون سعداء برؤية مشهد اعتذار المراهقين أو مشاهد خروج شباب لتنظيف أحيائهم أو النهي عن ممارسة النهب وتكسير الممتلكات العامة والخاصة. كان بودنا أن نرى مشاهد لمسؤولين محليين وبآليات ومعدات متطورة، سواء أكانت للوقاية المدينة( نحن مقبلون على تظاهرات رياضية دولية، تحتاج مؤسسة قوية للوقاية المدنية بمعدات وآليات وكفاءات، مع وجود أطباء من جميع التخصصات، بما فيها أطباء نفسانيون، يلتحقون بأماكن وقوع الحوادث أو المشاكل التي تستوجب التدخل). أو لمصالح خارجية أخرى، تُخرج "معتصم" من ألمه النفسي وتقدم له حلولا لمطالبه، قبل رؤية المأساة التي ستبقى عالقة في أذهان المنطقة لعقود ولن تنسى.
خلل ما في تدبير الشأن العام، يكفي تحويله إلى أسئلة، ربما تأوي بين ثناياها أجوبة، ننتظر من يبوح بها خارج هذا الصمت الذي يطوِّق الزمن والمكان:
- هل تداخل المهام، جعل كل مسؤول محلي ينتظر مبادرة المسؤولين الآخرين، وبالتالي إلقاء نتائج المصائب على عاتق الفاعلين دونه، وبالتالي سهولة التملص من المسؤوليات؟
- هل هناك غياب للتنسيق بين الفاعلين، وكل له رؤيته الخاصة في تدبير الأزمات المحلية، مما يخلق تناقضا، يعرقل مسارات التدخل الذي يقتضي السرعة والدقة والنجاعة في مثل هذه اللحظات؟
- هل هناك "أنانية تدبيرية"، أي أن كل فاعل محلي يرغب في التفرد والاستفراد في القيام بعمليات الإنقاذ والتدخل في لحظات لا تقبل الانتظار؟
- هل هناك هيمنة مستمرة لارتباط المصالح الخارجة للقطاعات التدبيرية والأمنية بالمصالح المركزية(وهذا يطرح تحديات كبيرة أمام ورش الجهوية المتقدمة طبعا)، مما يجعل المدبر المحلي غير قادر على اتخاذ أي قرار دون استشارة أو انتظار أوامر مركزية، والتي قد تكون صمتا منتظرا، كجواب نهائي، يقود الوضع إلى هكذا أحداث قد تحمل عواقب غير محمودة؟
تلكم الأسئلة التي نراها مدخلا للتفكير في معضلة الانصات إلى الأحداث قبل وقوعها، ووضع سياسة استباقية واستراتيجيات، يساهم فيها الجميع ويتجند من أجلها الجميع، وإلا سنرى مستقبلا ما، قد يؤلمنا أكثر، وأنا جد متفائل للاستفادة من زلاتنا في مرحلة لا تقبل هامشا أكبر من الارتباك.