FR AR
Partager sur :

بلعربي يكتب: الرجل الذي مات طفلًا

منذ طفولته، كان إسماعيل يحمل سرًّا. لم يكن حلمًا ولا حكايةً مختلقة، بل كان ذكرى.
في إحدى الأمسيات، وكان لا يزال في الخامسة من عمره، باح بها لأمه. أصغت إليه بعطفٍ وقلقٍ، كما يُصغى للأطفال الذين يتحدثون من وراء المرآة.
قالت له:
— لم يحدث ذلك يا بني. لا بد أنك حلمت به. إنها مجرد خيالات… أو نتيجة لمشاهدتك الكثيرة للتلفاز. لا تخبر أحدًا، حسنًا؟ سيسخرون منك.

أومأ إسماعيل، لكن الصمت لم يمحُ الصور. كانت تعود إليه باستمرار، مثل الأمواج التي تصرّ على ضرب الشاطئ: نهر بجانب مسجدٍ أبيض، جسر حجري، وسكة حديد تبدو كأنها تشقّ السماء. كان يرى طفلًا في الثامنة من عمره يغوص بين الضحكات، والشمس تلامس وجهه، والماء ينعشه ببرودته.
وكان يتذكر المدرسة أيضًا: المعلم بجلابته البيضاء وطربوشه الأحمر الذي يصل على دراجة نارية صفراء، وزملائه بمراييلهم الملوّنة، وذاك الكتاب، «اقرأ»، الذي يحمل على غلافه اسم أحمد بوكماخ. كل شيء واضح، حقيقي.

مضت السنوات. أحيانًا كان إسماعيل يعيد الحديث عن الكتاب، عن النهر، عن المدرسة. وأمه، بصرامةٍ تخفي رغبةً في حمايته، كانت تكرر:
— لا تتحدث عن ذلك مجددًا. تلك الأحلام تشوّش عليك ذكرياتك الحقيقية.
لكن الحلم، أو ما كان يشبه الحلم، لم يتركه.
كبر إسماعيل، وتخرّج في علوم البيئة، وعمل موظفًا في الوزارة. ذات يوم، كُلّف بمهمةٍ تقييم تلوث نهر في إحدى مدن المملكة، بسبب مصانع الآجور المحيطة به.
قاد السائق المحلي السيارة عبر طرقٍ مغبّرةٍ تحاذي مجرى النهر. كان الماء عكرًا، مريضًا، ومع ذلك، بدا المشهد مألوفًا بشكلٍ غريب.
وفجأة، اعتدل إسماعيل في مقعده وهمس:
— هنا… هنا عشتُ أنا.
نظر إليه السائق بدهشة:
— هل سكنت هنا يا سيدي؟
— لا أدري. أجاب إسماعيل وهو يشعر بنبض قلبه في صدغيه.
طلب أن ينعطف إلى اليسار. ساروا في ممرٍّ ضيقٍ بين الصبار والزيتون حتى بلغوا بيتًا صغيرًا بجانب بستان.
قال: — هنا… كانت المدرسة.
دخل دكانًا قريبًا وسأل صاحبه.
فأجابه الرجل:
— لا، يا سيدي، لكن منذ سنواتٍ طويلة، كان هناك فصلان للصف الأول الابتدائي. ثم حوّلوهما إلى منزلٍ للسكن.
وأشار إلى البيت الأبيض المنخفض، تحيط به الأشجار:
— كان هنا، نعم.
شعر إسماعيل بقشعريرة، كأن الزمن تنفّس بداخله.
طلب إسماعيل من السائق أن يتابع السير في طريقٍ آخر. وصلوا إلى حيٍّ قديمٍ فأشار إلى زاويةٍ مهدّمة.
— هنا كانت ورشة صغيرة … وهناك… هناك كان بيتي.
لكن لم يبقَ شيء. لا الورشة، ولا البيت.
كانت عجوزٌ تجلس في الظل، تغزل الصوف بأصابع مرتجفة. اقترب منها وسألها إن كانت تعرف أسرة تُدعى “إمزوجن”.
قالت: — نعم، يا سيدي. كانوا يعيشون هنا، لكنهم رحلوا منذ زمنٍ بعيد، بعد أن مات الصبي.
— مات؟ سأل بصوتٍ خافت.
— نعم، غرق في النهر. جرفته السيول مع ثلاثةٍ من أصدقائه. عُثر عليهم عند المصب، ممدّدين على الطين كأنهم نيام. لم تحتمل أمه الفاجعة، فرحلوا جميعًا ولم يعودوا.
تجمّد إسماعيل في مكانه، يحدّق في النهر البعيد. ثم شكرها وعاد إلى مدينته دون أن ينطق بكلمة.

مرّت أسابيع. أعدّ حقيبةً جديدة، وتقريرًا جديدًا، ورحلةً أخرى. لم يعلم أحد أن الأحلام كانت توقظه ليلًا: يرى وجوه الأطفال، يسمع صرخاتهم المخنوقة، يشعر بالماء يجرفه إلى أسفل النهر.
كان النهر ما يزال يناديه.

Partager sur :