إعداد الطالب الباحث: لحسن مقبولي سلك الدكتوراه جامعة شعيب الدكالي بالجديدة
نظرا لأهمية القيم في تشكيل دواليب الدولة المغربية وتحقيق التنمية الشاملة، وانطلاقا من التوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، من خلالها تكليف المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بمهمة بلورة نموذج تنموي جديد للأقاليم الجنوبية للمملكة، يستلهم مبادئه الكبرى من دستور يوليوز 2011. ومنذ خطاب جلالته قامت الدولة المغربية بتفويض المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، لوضع أرضية للتحليل، والاقتراح قصد إعداد نموذج تنموي جديد خاص بالمناطق الجنوبية، حتى المصادقة على التقرير حول “النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية” من طرف الجمعية العامة، في دورة استثنائية، بتاريخ 24 أكتوبر 2013. هذه الخطوة تُظهر الاستراتيجية، والعناية الكبيرة التي أوْلتها الدولة لهذا الموضوع، الأمر الذي أكدته التفاصيل التي جاءت في تدقيق النموذج التنموي الجديد (أبريل 2021)، والتي تفرضه عدة عوامل؛ الوضعية الدولية، واقع البلاد، وتطور المؤسسات في جميع المجالات.
في هذا السياق تعتبر تجربة جهة الدار البيضاء سطات كبرى جهات المملكة المغربية، رائدة في تفعيل قيّم التدبير الجماعي، والموجِّهة للنموذج التنموي للأقاليم الجنوبية كمجال استراتيجي للاستثمار، حيث يقوم هذا النموذج على القيم الوطنية الجامعة وفي طليعتها، الوحدة، والتضامن، والسيادة، والمسؤولية.
إن التدبير الجماعي الجيد يقتضي تَمثُّل هذه القيم من طرف مدبرِّي الشأن العام، وذلك لتجاوز عثرات الجماعات الترابية، التي تضمنتها التقارير الرسمية الوطنية للمجالس الجهوية للحسابات، والمفتشية العامة للإدارة الترابية، والمفتشية العامة للمالية، والهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة ومحاربتها، كما وقع في بعض الجماعات الترابية بجهة الدار البيضاء سطات، وغيرها من الجهات الأخرى، والتي أدت إلى متابعات قضائية، ومحاكمات. أذكر منها: ملف، جماعة برشيد؛ جماعة أولاد عزوز بإقليم النواصر؛ جماعة أولاد سي بويحي إقليم سيدي بنور؛ جماعة أولاد زيدان إقليم برشيد؛ جماعة الجديدة، جماعة أولاد غانم، ومولاي عبد الله، جماعة البير الجديد، بإقليم الجديدة.
مما يؤكد عدم نجاحنا في هذه القيم، والحال أننا أمام تحدّ كبير للوحدة الترابية، الواقع يفرض علينا ضرورة تجاوز هذه العثرات لتحقيق هذه القيم بُغية النجاح في هذه التجربة الجديدة التي لا تقبل السقوط أو الارتباك، وإلا ستكون التكلفة كبيرة.

يُعدّ البعد القيمي من المكونات الأساسية، والجوهرية للتنمية المستدامة، بصفته عنصرا مهما في توجيه البرامج، والمشاريع التنموية، والسياسات العمومية نحو تكرِّيس المصلحة العامة. وقد رسّخ المغرب في سيرته التنموية منظومة قيمية متعددة المشارب، كالإسلام، لاعتباره المرجع الأساسي، والقيمي للمغاربة؛ ودستور المملكة الذي أرسى مبادئ العدالة الاجتماعية، والحكامة الجيدة؛ ثم النموذج التنموي الجديد (أبريل 2021) الذي حثّ على اعتماد قيّم المساواة، والابتكار، والمسؤولية، والنجاعة. هذه القيم المؤسِّسة للتدبير الجماعي تعتبر من أهم ركائز الدولة المغربية العصرية في إطار التغييرات التي تعيشها المملكة منذ اعتماد دستور سنة 2011، هذا الأخير رسّخ منظومة قيمية جديدة تجمع بين العدالة المجالية، والهوية الوطنية. تتجلى الأبعاد القيمية بشكل بَيِّن عند تناول ملف الوحدة الترابية لاعتباره قضية أمة وشعب، تقتضي إعدادا جيدا، وتدبيرا عموميا يعتمد على القيّم المغربية النبيلة المتجذرة في التاريخ المغربي، واستراتيجية تنموية تتجاوز الأبعاد الأمنية انسجاما مع النموذج التنموي الجديد الذي يروم التنمية، والحكامة الجيدة بكل ابعادها.
إن قيّم التدبير الجماعي التي ذَكرتُ سابقا كانت حاضرة في النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية (أكتوبر 2013)، وتمّ تأكيدها، والاستفادة منها في صياغة وثيقة النموذج التنموي الجديد (أبريل 2021)، مما يدُل على الرؤية الاستراتيجية للدولة المغربية، وتملُّكِها نظرة استباقية. في هذا الإطار، يبدو الحديث عن التنمية ليس وليد اللحظة بل سبقته الرؤية التنموية الوطنية، مما يؤكد اهتمام الدولة المغربية بالأقاليم الجنوبية بشكل كبير. وفي إطار واقع الدولة (2013) لم تُحدِّد وتُجزِّء قيّم التدبير، بل تناولتها بصفة عامة، وكذا التوجهات التنموية الكبرى المتعلقة بتحقيق الجودة، لكن فيما بعد تمَّ التفصيل في هذه القيم، وذُكِر منها: الوحدة، التضامن، السيادة، والمسؤولية، المساواة، والابتكار، والنجاعة.
يُعدّ النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية (أكتوبر 2013) رؤية استراتيجية، ومدارا محوريا في تنزيل هذا التوجه، باعتباره تفسيرا عمليا للرؤية الملكية التي تضمنتها الخطب السامية في مناسبات عديدة، حيث قال جلالته:
“لأننا بعد سنوات من التضحيات، ومن الجهود السياسية والتنموية، قد وصلنا إلى مرحلة النضج. ولأننا وفّرنا الشروط لإطلاق مرحلة جديدة على درب توطيد الوحدة الوطنية، والاندماج الكامل لأقاليمنا الجنوبية في الوطن الأم. وفي هذا الإطار، يندرج تفعيل النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، وتطبيق الجهوية المتقدمة”. كما أكد جلالته قائلا في مناسبة أخرى: “إن ما تنعم به أقاليمنا الجنوبية من تنمية شاملة، وأمن، واستقرار، هو بفضل تضحيات جميع المغارية”.
وحيث نجد موضوع القيّم حاضرا في الخطب الملكية، فقد ركّز جلالته في محطة أخرى على أهمية القيّم في تجاوز بعض النوازل التي تصيب الأمة قائلا حفظه الله: “لقد أظهرت الفاجعة (زلزال الحوز) انتصار القيم المغربية الأصيلة، التي مكنت بلادنا من تجاوز المحن والأزمات، والتي تجعلنا دائما أكثر قوة وعزما، على مواصلة مسارنا، بكل ثقة وتفاؤل. تلك هي الروح والقيم النبيلة، التي تسري في عروقنا جميعا، والتي نعتبرها الركيزة الأساسية، لوحدة وتماسك المجتمع المغربي. وهي قيم وطنية جامعة، كرّسها دستور المملكة، وتشمل كل مكونات الهوية المغربية الأصيلة، في انفتاح وانسجام مع القيم الكونية.
وفي إطار المجال التنموي فإن الاعتراف بجهود الكفاءات والخبراء المغاربة في هذا الصدد، والتي أبانت عن مهارات وقدرات كبيرة وطنيا، ودوليا (في الداخل أو الخارج) تؤكد أن ملف الوحدة الترابية ليس مقصوراً على الجانب الأمني أو السياسي، بل يمتد إلى الأبعاد التنموية، والدبلوماسية، والاقتصادية.
هذا الرهان الوطني المتمثل في تمتيع الأقاليم الجنوبية بنموذج تنموي متقدم يعزز الوحدة الترابية والسيادة؛ ويحقق تنمية شاملة ومستدامة؛ ويكرس الجهوية الموسعة كبديل استراتيجي وطني، يقابله رهان دولي كبير تمثّل في الدعم الواسع الذي حظيت به قضية الوحدة الوطنية. بناء على ما سبق، فإن النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية يشير إلى “شرطان أساسيان ومتكاملان، ينبغي أن يعززا دولة القانون، ويتيحا توطيد الثقة وانخراط المواطنين في الأنماط المقرحة ضمن النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية. أما الشرط الأول فهو الضرورة القصوى لتفعيل احترام السلطة، ودعم فعلية القوانين والتنظيمات، وضمان الولوج إلى العدالة…أما الشرط الثاني الأساسي لإعادة بناء الثقة، فيتمثل في التشاور مع الأطراف المعنية، وإشراك المواطنين، من خلال آليات مجددة ومستدامة” هذه الأسباب تفرض علينا النجاح في تدبير الملف التنموي بالأقاليم الجنوبية، على المستوى السياسي، والتشريعي، والترابي. سياسيا يجب اتخاذ القرارات الكفيلة بإنجاح تدبير المرحلة، تشريعيا بسنّ القوانين المواكبة والمناسبة، ترابيا لابد من العمل على ضمان تحقيق قيّم الحكامة الجيّدة. في هذا الإطار، يمكن التذكير بأن كثيرا من التعثرات التي عاشتها بعض الجماعات الترابية، يمكن تفاديها بالتمثل الحقيقي لقيّم المجتمع المغربي، مما يدفعنا إلى ضرورة إيلاء العناية اللازمة بقيم التدبير الجماعي بمفهومها الواسع، كما نصت على ذلك قيم ديننا الحنيف، وكل الوثائق المرجعية في هذا الباب، وكما نبّه عليها جلالة الملك في أكثر من مناسبة.
يتبع…