
هشام التواتي - إن ما يقع في شوارع المغرب منذ الأيام الثلاثة الماضية، السبت 27 والأحد 28 والإثنين 29 شتنبر 2025، ليس مجرد احتجاج عابر أو انفعال شبابي موسمي. إن ما يحدث هو أقرب إلى رجة سياسية واجتماعية حقيقية، قلبت الساحة رأسا على عقب، وطرحت أسئلة غير مسبوقة على الحكومة، وعلى من تبقى من النخب، وعلى المجتمع نفسه. جيل Z، ذلك الجيل الذي طالما وُصف باللامبالي، غير المكترث، والمفرط في الترفيه، والبعيد عن السياسة، اختار الخروج من صمته الرقمي ليعبّر عن ذاته في الميدان، في الشارع، في قلب المدن. هذه المرة، لم تكن الاحتجاجات بقيادة الأحزاب أو النقابات أو حتى الجمعيات الحقوقية، بل بقيادة جيل خرج من رحم الإنترنت، ونشأ في ظل الخوارزميات، واستمد قوته من ضعفه الظاهر.
المطالب التي رفعها هذا الجيل ليست جديدة في حد ذاتها: تعليم جيد ومجاني، صحة متاحة، عدالة اجتماعية، محاربة الفساد، كرامة وعيش لائق. هذا جيل لا يؤمن بالهياكل التقليدية، ولا يخضع للتراتبية الأيديولوجية أو التنظيمية. إنه لا يضع قيادات على رأسه، ولا يشتغل وفق بيانات حزبية. إنه جيل مبعثر تنظيميا، لكنه موحد رمزيا. قوة هذا الجيل تكمن في كونه غير مرئي وغير قابل للتصنيف السريع. لا أحد يستطيع أن يدّعي تمثيله أو الحديث باسمه، ولا أحد يمكنه ضبطه أو تأطيره بالأساليب التقليدية. لذلك، فإن الخطر لا يكمن في صوته، بل في عجز المؤسسات عن سماعه.
الرد الأمني على هذا الحراك، وإن بدا تقليديا، كشف حدود المقاربة الأمنية في التعاطي مع سؤال اجتماعي وسياسي مشروع. اعتقالات، تدخلات وصفت بالعنيفة أحيانا، منع وتهديد. كل هذه أدوات لم تعد صالحة في عصر الصورة، وعصر TikTok وReels وDiscord. فيديو واحد لطفلة تبكي أثناء اعتقال والدها قد يهدم سنوات من الدعاية عن “المغرب الجديد”. مشهد شاب يصفع في الشارع، أو شابة تسحل يتم توقيفها فقط لأنها رفعت لافتة، سيكون له من التأثير ما يعجز عنه ألف بيان توضيحي صادر هنا وهناك. لقد أثبتت الأحداث أن الجواب الأمني على سؤال سياسي لا يولد إلا مزيدًا من القلق، ويُضعف الثقة بين المواطنين والدولة.
والمفارقة أن من يتقدم الصفوف في الهجوم على هذا الجيل ليس فقط من المطبلين للحكومة، بل أيضا بعض الأصوات السياسية والجمعوية، التي تحاول، كما في كل مرة، الركوب على الموجة أو اتهامها بالانحراف، فقط لأنها لم تكن من صناعتها. لكن من حق هؤلاء أن يغضبوا، فجيل Z، ببساطة، أجهض كل وهم التمثيل. جعل الأحزاب تبدو شاحبة، والنقابات خارج الزمن، والمجتمع المدني في موقع المتفرج. والأسوأ: أنه رفض وساطتهم، وتجاوزهم جميعا، وقرر أن يتحدث بنفسه، لنفسه، عن نفسه.
الاحتجاجات التي شهدتها مدن الرباط، والدار البيضاء، وطنجة، وغيرها، ليست نهاية شيء، بل بداية كل شيء. هي إشارة واضحة أن الأزمة لم تعد اقتصادية فقط، بل أصبحت أزمة ثقة، أزمة تمثيل، وأزمة في معنى السياسة نفسها. وحين يشعر الجيل الصاعد أن لا أحد يتحدث باسمه، وأن مؤسسات بلاده تتعامل معه كرقم أو تهديد، فإنه سيتحول إلى كيان غير منضبط، غير قابل للسيطرة، وغير راغب في التفاوض مع مَن يعتبرهم جزءا من المشكلة.
السياسة، كما يُقال، لا تحتمل الفراغ. والدولة، إن لم تبادر، ستُبادر عنها الشوارع. والمجتمع، إن لم يُصغِ لصوته الجديد، سيتحول هذا الصوت إلى صراخ. والمؤسسات، إن استمرت في اعتبار الشباب مشروعا أمنيا، فإنها ستخسر المعركة قبل أن تبدأ. لأن من يتظاهر من أجل التعليم والصحة والكرامة، لا يجب أن يُقابل بالهراوة، بل بالحوار.
جيل Z في المغرب ليس تياراً سياسياً. إنه عرض لمرض عميق في النظام السياسي والاجتماعي. وإذا اختارت الدولة ألا تقرأ هذا العرض جيدًا، فإن الورم سيكبر. أما إذا قرأت الرسالة بتعقل، فإن ما حدث قد يكون فرصة تاريخية لإعادة ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس جديدة، أكثر عدلاً وإنصافاً وإنصاتاً. الحذاء الخشبي الذي صُنع لهذا المجتمع منذ الاستقلال، لم يعد يصلح لمقاسه. لقد كبر الجسد، وضاقت عليه الأحذية القديمة. والسؤال الآن: هل تملك السلطة الشجاعة لخلعه؟