أكد الملك محمد السادس أن المغرب، وإيمانا منه بالأهمية المحورية لاستقلال السلطة القضائية ودورها في بناء دولة الحق والقانون، بادر إلى وضع مقومات هذا الصرح، واتخاذ ما يقتضيه من تدابير مؤسسية وتشريعية وعملية.
وذكر العاهل المغربي، في رسالة وجهها إلى المشاركين في المؤتمر الدولي الأول للعدالة الذي افتتحت أشغاله اليوم الاثنين بمراكش حول موضوع "استقلال السلطة القضائية بين ضمان حقوق المتقاضين واحترام قواعد سير العدالة"، بأنه تم التنصيص صراحة في الدستور على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وإحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية، كهيأة دستورية مستقلة ذات تركيبة متنوعة، تحت رئاسته.
وأضافت الرسالة الملكية أن الدستور منع أيضا أي تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، وأوكل للقانون معاقبة أي محاولة للتأثير على القاضي، مشيرة إلى أن الدستور "اعتبر إخلال القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما وموجبا للمتابعة الجنائية عند الاقتضاء".
وأبرز الملك محمد السادس أن النص الدستوري "لم يقف عند هذا الجانب، بل أقر أحكاما تكرس حقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة، مرسخا وظيفة القاضي في حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، ومؤكدا على ضمان الحق في التقاضي، وعلى صيانة قرينة البراءة، والحق في المحاكمة العادلة داخل أجل معقول".
وقال الملك محمد السادس: "وقد حرصنا على ترجمة هذه المبادئ الدستورية في ميثاق وطني لإصلاح منظومة العدالة، يتضمن مجموعة من الإصلاحات التشريعية والتنظيمية والعملية، عهدنا بإعداده، وفق مقاربة تشاركية موسعة، إلى نخبة من القضاة والمحامين والخبراء والحقوقيين ومهنيي العدالة".
وأوضح أنه "وفي هذا الإطار، تم إصدار نصوص قانونية ذات أهمية كبرى، وفي مقدمتها القانونان التنظيميان المتعلقان بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية وبالنظام الأساسي للقضاة، بالإضافة إلى القانون الذي نقل بموجبه الإشراف على النيابة العامة من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض".
واعتبر العاهل المغربي أن المملكة تمكنت، بفضل هذه المبادرة الجماعية، من قطع أشواط أساسية في مسار استكمال الإطار المؤسسي لحكامة منظومة العدالة، معربا عن تطلعه إلى التسريع بتفعيل ما تضمنه الميثاق من تدابير أخرى ملائمة، تهدف إلى تحيين التشريع، وتطوير أداء القضاء، والرفع من نجاعته، ترسيخا لاستقلاله الذي كرسه دستور المملكة.
وأكدت الرسالة الملكية أنه بغض النظر عما حققه المغرب من إنجازات، في بناء الإطار المؤسساتي لمنظومة العدالة، فإنه يبقى منشغلا، مثل كل المجتمعات التي تولي أهمية قصوى للموضوع، بالرهانات والتحديات التي تواجه القضاء عبر العالم.
وشدد محمد السادس على أن ضمان تفعيل استقلال السلطة القضائية في الممارسة والتطبيق يأتي في مقدمة هذه التحديات، مسجلا أنه يتعين على القاضي أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية.
وأضاف أن تعزيز الثقة في القضاء، باعتباره الحصن المنيع لدولة القانون والرافعة الأساسية للتنمية، يشكل تحديا آخر يجب رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها، لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي تشهدها مختلف المجتمعات.
ومن بين الأسباب المحققة لذلك، يضيف الملك، تسهيل ولوج أبواب القانون والعدالة، عبر تحديث التشريعات لتواكب مستجدات العصر، وملاءمتها للالتزامات الدولية، خاصة منها ذات الصلة بحقوق الإنسان، وتيسير البت داخل أجل معقول وضمان الأمن القضائي اللازم لتحسين مناخ الأعمال، وتشجيع الاستثمار وتحقيق التنمية، فضلا عن دعم فعالية وشفافية الإدارة القضائية، باستثمار ما تتيحه تكنولوجيا المعلوميات، ومأسسة الوسائل البديلة لحل المنازعات.
وبخصوص العدالة الجنائية، اعتبر محمد السادس أن تطويرها "يقتضي دراسة الصيغ التي تجعلها تحقق الملاءمة المثلى بين واجب صيانة الحقوق والحريات، وبين هاجس الحفاظ على قيم وركائز المجتمع، ودرء كل خطر يهدده، في عالم كثرت فيه المخاطر، وتشابكت فيه العلاقات، ونما فيه التواصل الرقمي، مع ما قد يصاحب ذلك من تهديدات وانحرافات، تتخذ أشكالا معقدة لابد من التصدي لها بكل مهنية وفعالية".
وأضاف العاهل المغربي أن بلوغ الأهداف المرجوة في كل هذه المستويات يظل رهينا بتحسين تأهيل نساء ورجال القضاء، والرفع من القدرات المؤسسية للعدالة، ودعم تخليق جميع مكوناتها، داعيا في هذا الصدد إلى تنمية التعاون الدولي وتطوير مجالاته، كرافد للارتقاء بأداء أنظمة العدالة، يتيح تبادل التجارب والخبرات، واكتشاف الممارسات الفضلى التي يمكن الاستفادة منها والاستئناس بها.