
في زمن تتداخل فيه خطوط البيئة، الهندسة، والمجتمع، لا تعود الندوات مجرد لقاءات أكاديمية، بل تتحول إلى مختبرات تفكير جماعي وإعادة تشكيل للوعي المهني. هذا بالضبط ما حدث في "مدينة المهن والكفاءات بأكادير"، حيث احتضنت الفضاءات الحديثة للمؤسسة بحر الأسبوع الماضي ندوة علمية تحسيسية استثنائية، نظمتها جمعية تقنيي قطاع البناء والأشغال تيزنيت، في إطار مشروعها "سفراء البناء المستدام"، المدعوم من برنامج "أمل"، الذي تنفذه منظمة الهجرة والتنمية بشراكة مع الوكالة الفرنسية للتنمية.
لكن هذا النشاط لم يكن مجرّد محطة ضمن مشروع تحسيسي. لقد كان أقرب إلى لحظة مساءلة شاملة: ماذا يعني أن نبني في سياق أزمة مناخية؟ من نكوّن؟ ولماذا؟ وهل يكفي أن نرفع شعارات الاستدامة في الورشات واللقاءات، دون أن نغيّر أدوات العمل، ومسارات القرار، وأفكار المستقبل؟
*الندوة... كأداة لزعزعة اليقين التقني*
بعيدا عن الكليشيهات المعتادة حول "تحسيس وتقوية القدرات"، جاءت هذه الندوة لتحرك المياه الراكدة في مجال تقني ظل طويلا بعيدا عن هم البيئة. لقد جمعت حول طاولة النقاش فئات متنوعة: متدربون، مهنيون، باحثون، أساتذة، وممثلو المجتمع المدني، والكل كان يحمل سؤالا أو يبحث عن جواب: هل يمكن فعلا بناء الغد بمواد الأمس؟
ومن خلال مداخلات أكاديمية رصينة، قدمها نخبة من الدكاترة والأساتذة المختصين، تحول اللقاء إلى فسحة عصف ذهني جاد، تم فيها تفكيك مفهوم البناء المستدام ليس كترف نظري، بل كضرورة بيئية، اقتصادية، واجتماعية.
*التراب كمنطلق، وليس كإطار*
أحد أبرز تحولات النقاش كان في الانتقال من التوصيات الفضفاضة إلى الحلول الترابية. فقد دعا المتدخلون إلى استثمار الموارد المحلية، واعتماد تقنيات البناء الأصيلة التي أثبتت فاعليتها البيئية منذ قرون، بدلا من الاستمرار في استيراد نماذج معمارية لا تناسب لا المناخ، ولا الاقتصاد، ولا الثقافة.
وفي هذا السياق، تم التأكيد على أن جهة سوس ماسة ليست فقط "مجالا" للاشتغال، بل هي مكون معرفي وثقافي يجب أن يدمج في رؤية البناء المستدام، خاصة مع تنوع تضاريسها وموروثها المعماري الغني.
*المتدربون... سفراء التحول الحقيقي؟*
لكن ما ميز هذه الندوة حقا، لم يكن فقط قوة المداخلات، بل تفاعل المتدربين. لقد عبر هؤلاء الشباب، بلغة واضحة، عن تعطشهم لتكوينات جديدة تتجاوز "الخطاطة التقنية"، وتؤسس لعلاقة مسؤولة مع البيئة والمجتمع.
هؤلاء المتدربون لم يعودوا فقط "متلقين" للمعرفة، بل باتوا مطالبين بأن يكونوا فاعلين ميدانيين، ورسلا للتغيير في الاوراش، وفي الأحياء، وفي مؤسسات التكوين ذاتها.
*ما بعد الندوة: من المؤقت إلى المشروع المجتمعي*
لم يكن ختام الندوة لحظة وداع، بل إعلان انطلاق لمسار جديد. عبر عدد من المشاركين عن رغبتهم في تحويل الزخم الفكري الذي شهدته القاعة إلى مبادرات ملموسة: ورشات، أندية بيئية، حملات توعية، مشاريع جماعية... وغيرها.
وفي كلمة ألقاها رئيس جمعية تقنيي قطاع البناء والأشغال تيزنيت، أكد التزاهم في الجمعية بمواصلة هذا المشروع الطموح، وتحويله من مشروع ممول إلى منهج اشتغال طويل النفس، يراهن على الإنسان، على المعرفة، وعلى التراب.
*البناء المستدام... مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون تقنية*
الرسالة الأهم التي خرج بها المشاركون من هذا اللقاء لم تكن محصورة في تقنيات أو مفاهيم. بل كانت إعادة تعريف لدور التقني: ليس فقط كحرفي ينفذ، بل كمواطن يسائل، ويقترح، ويؤثر.
وفي ظل التحديات المناخية المتسارعة، أصبح واضحا أن التحول نحو عمران مستدام لن يتم بقرارات فوقية فقط، بل بوعي مهني جماعي، يبدأ من مراكز التكوين، ويمتد إلى الورش، لينتهي في صميم السياسات العمومية.
*في الختام:* ندوة "البناء المستدام بسوس ماسة" لم تكن مجرد نشاط عابر، بل بيان نوايا مهني جديد. بيان يعلن أن الجيل الجديد من التقنيين في المغرب لم يعد يكتفي بالمعرفة التقنية فقط بمجال البناء والاشغال، بل صار يبحث عن معنى للبناء في زمن الأزمات.