Partager sur :

عبد الله بوصوف : “مسجد باريس… إما أن يكون مغربيا أو لا يكون

بالمناسبة، فإرهاصات فكرة بناء مسجد باريس جاءت ضمن نصوص “اتفاقية السلام والتجارة” الموقعة بين السلطان محمد بن عبدالله وممثل دولة فرنسا بتاريخ ماي 1767، وتحديدا الفصل 11 من هذا الاتفاق الذي يضمن الحرية الدينية للفرنسيين والأوروبيين بالمغرب والحرية الدينية لاتباع الإمبراطور المغربي عند تواجدهم بفرنسا… بالإضافة إلى رسائل التقارب بين الجنرال نابوليون والسلطان المولى سليمان (غشت 1798) حول الشأن الديني.. كما سيعرف تاريخ ماي 1824 تأكيد الرغبة في بناء مسجد بفرنسا من طرف المولى عبد الرحمان (1859-1822).تُحدثنا بعض وثائق الأرشيف الفرنسي عن محاولات فرنسية أُحَادية في القرن العشرين لبناء مسجد، لكن الفكرة لم تنجح ولم تحظ بقبول المسلمين لكونها من بناء “الكفار أو من غير المؤمنين”.. مسجد الأغواط سنة 1916 نموذجا…

لكن المارشال الداهية ليوطي، وهو المقيم العام الفرنسي بالمغرب والعارف بتقاليد وأعراف المملكة الشريفة، سيعمل على دفع المسؤولين الفرنسيين بباريس إلى الموافقة على بناء مؤسسة إسلامية ومسجد بباريس… يكون بمثابة اعتراف بجميل الضحايا المسلمين من أبناء المستعمرات الفرنسية الذين ماتوا دفاعا عن حرية واستقلال فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى حوالي سبعين ألف جندي (قتيل) من شمال إفريقيا… فكانوا أمام إشكاليتين كبيرتيْن:

أولاهما قانون الفصل بين الدولة والكنيسة لسنة 1905 وما يترتب عليه من استحالة تمويل الدولة الفرنسية لمسجد للمسلمين فوق التراب الفرنسي ومن خزينة فرنسية… وهو ما تم الالتفاف عليه من خلال خلق “مؤسسة الأحباس والأماكن المقدسة” سنة 1917 والتي ستتلقى قرضا بقيمة 500 ألف فرنك بعد موافقة مجلس الجمعية العمومية سنة 1920… وهي من ستتولى المؤسسة الإسلامية ومسجد باريس…

أما الإشكالية الثانية وهي الأعقد، فقد تمثلت في “الشرعية الدينية”، أي الجهة التي ستضفي على المشروع شرعية قانونية وفقهية / دينية… ولأن السلطات الفرنسية في باريس تعلم علم اليقين، سواء من خلال الدراسات التاريخية والاجتماعية المنجزة عن شعوب المنطقة أو من خلال تقارير ممثليها الرسميين في مستعمرات شمال إفريقيا من مقيمين عامين وحكام وقادة عسكريين وكتاب ومفكرين… أو غيرها من المصادر… فإن مسجد باريس إما أن يكون مغربيا أو لا يكون… إذ كان وضع مستعمرات فرنسا في شمال إفريقيا إما أنها كانت أقاليم فرنسية بالكامل كدائرة الجزائر، أو تابعة للإمبراطورية العثمانية ويدعو خطيبها يوم الجمعة للسلطان العثماني، وهذه حالة تونس…

وهنا ظهرت الحاجة إلى السلطان المغربي العلوي المولى يوسف، وما يتمتع به من وظائف روحية ودينية؛ فهو سليل الشجرة النبوية الشريفة وأمير المؤمنين، بالإضافة إلى الخضوع الروحي والديني للعديد من الزوايا الدينية ذات الامتداد في العمق الإفريقي..

لقد كان السلطان المولى يوسف، إذن، بمثابة الورقة الرابحة للماريشال ليوطي وللحكومة الفرنسية في الترافع من أجل بناء مؤسسة إسلامية ومسجد في قلب العاصمة باريس لتحسين صورة فرنسا الاستعمارية أمام الشعوب الإسلامية أولًا، ولتكريم ثانيا من ارْتَوى بدمائهم التراب الفرنسي في سبيل حرية وكرامة الشعب الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى (1914/1918)… وهي الحرب التي شارك فيها حوالي 600 ألف جندي من المستعمرات الفرنسية نصفهم من دول شمال إفريقيا… صحيح أنه تم احترام بعض عناصر هويتهم وخصوصيات تقاليدهم كتقديم الطعام الحلال والدفن حسب طقوس الشريعة الإسلامية وأداء الصلاة خاصة في مكان خاص بملحقة المستشفى سنة 1916… لكنها لم تكن حربهم.. وهو ما قاله الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند في معرض حديثه أثناء الاحتفال بالذكرى المئوية لانطلاق الحرب العالمية الأولى في شهر نونبر من سنة 2014، حيث قال “الذين شاركوا في حرب كان يمكن ألا تكون حربهم….” وتجدر الإشارة إلى المشاركة الفعالة والقوية للجنود المغاربة، إذ فاق عددهم 40 ألفا وشاركوا في كل المعارك الحاسمة مثل لامارن وأرتوا وشامبان وفردان وغيرها، حيث سقط فيها عشرات الآلاف من الجنود المغاربة في سبيل تحرير فرنسا…

لقد كان لزاما توظيف رمزية مؤسسات دينية لها وقع خاص على عقل ووجدان المسلمين.. ومن ضمنها مؤسسة الأوقاف الإسلامية.. وهكذا تم خلق “مؤسسة الأوقاف والأماكن المقدسة” سنة 1917، وتعيين سي قدور بنغبريط على رأسها، حيث كان يشغل آنذاك وزيرا لدى السلطان المغربي..

وسي قدور هذا، رغم أنه من مواليد مدينة تلمسان (1868/ 1954) فإنه تلقى تعليمه في جامعة القرويين بفاس، كما أنه برع في مجال الترجمة حيث كانت له مدرسة فرنسية /عربية بمدينة طنجة سنة 1904.. ولأن السلطان المولى عبد العزيز كان قد منح الجنسية المغربية سنة 1895 لكل الجزائريين المقيمين بالمغرب لحمايتهم من إجراءات المستعمر الفرنسي… لذلك، يمكننا التأكيد على أن سي قدور كان يتمتع بالجنسية المغربية ولم يكن أجنبيا… وهو بهذه الصفة فقد تقلد مناصب سامية لدى بلاط السلطان المغربي، ومنها منصب وزير؛ وهو ما سهل تعيينه كرئيس لمؤسسة الأحباس والأماكن المقدسة، وبعدها تعيينه على رئاسة مسجد باريس وكل ملحقاته.. كل هذا وسي قدور تحت سلطة السلطان المغربي المولى يوسف، كما أن الموقع الجديد لسي قدور جعله يتبادل المراسلات مع المقيم العام بالمغرب الماريشال ليوطي..

من جهة أخرى، فالأرشيف التاريخي لمسجد باريس يزخر بالعديد من المراسلات المتبادلة بين السلطان المغربي المولى يوسف والحسين شريف مكة بخصوص قيام مؤسسة الأحباس والأماكن المقدسة بشراء عقارات بكل من مكة والمدينة تخصص لإيواء الحجاج المغاربيين… وكذا لجمع التبرعات لبناء مسجد العاصمة الفرنسية باريس… كما أن الأرشيف نفسه يؤرخ للحظات خالدة؛ كانفراد السلطان المغربي بتحديد “قِبلة المصلين”، وباحتكار تعيين أئمة وخطباء مسجد باريس… وهي اختصاصات تُتيحها له صفته كأمير للمؤمنين وصاحب الشرعية الروحية والدينية…

لذلك، فقد جاء تعيين سي قدور كرئيس لمؤسسة الأحباس ومسجد باريس، فقط لأنه كان يشتغل وزيرا في بلاط السلطان المغربي الشريف وليس لسبب آخر.. كما جاء تعيين أول إمام وخطيب لمسجد باريس في شخص القاضي المغربي التيجاني أحمد السكيرج تحت جُبة الشرعية الروحية والدينية للسلطان المغربي المولى يوسف .

لقد حرصت السلطات الفرنسية على إضفاء الشرعية الدينية الإسلامية على مسجد العاصمة الفرنسية، وعلى احترام أدق التفاصيل خاصة في مجال العمارة والبناء… لذلك كلف الماريشال ليوطي مهندسين معماريين يشتغلون معه في المغرب، وجلب حوالي 450 من أمهر الصناع التقليديين ومواد البناء والخزف والزليج … كل هذا من المغرب.

وبطبيعة الحال، فلن تكتمل الشرعية الروحية والدينية لمسجد باريس إلا بحضور حاملها يوم تدشين مسجد باريس في 15 يوليوز من سنة 1926، حيث حضر السلطان المولى يوسف بوفد وزاري يضم وزير الأوقاف المغربي أحمد الجاي والوزير المقري، أما الحضور الفرنسي ليوم التدشين فقد حمل العديد من الرسائل السياسية والعسكرية والتشريعية القوية من خلال حضور رجال الصف الأول في الحكومة الفرنسية وعلى رأسهم رئيس الجمهورية الفرنسية Gaston Doumergue وEdouard Herriot رئيس الجمعية العمومية الفرنسية وهو من المدافعين الكبار عن مشروع مسجد باريس… بالإضافة إلى قادة عسكريين كبار… وهو ما كان يعني أهمية هذه المؤسسة الدينية الإسلامية (مسجد باريس) في الأجندة السياسية لفرنسا أمام مستعمراتها الإسلامية في شمال إفريقيا ودول غرب إفريقيا…

وسيعود مسجد باريس إلى واجهة الأحداث خلال الحرب العالمية الثانية، إذ سيصبح المسجد كمكان للجوء اليهود الفرنسيين… لقد قام سي قدور بنغبريط، بتوجيه من السلطان محمد الخامس، بمساعدة اليهود الفرنسيين وتسليمهم شواهد وبطاقات هوية على أنهم من المسلمين وتخصيص أقبية المسجد كمكان لاختباء اليهود الفرنسيين من جنود حكومة فيشي… وبهذه الطريقة تم إنقاذ ما بين 500 و1000 يهودي فرنسي من المحرقة بعدم تسليمهم إلى حكومة فيشي النازية… وفي الآن نفسه يمْتنِع السلطان المغربي محمد الخامس عن تسليم اليهود المغاربة لحكومة فيشي بقولته الشهيرة: “ليس لدي يهود، بل مواطنين مغاربة”..

لقد تم تجاوز الإشكاليات القانونية والسياسية والإيديولوجية التي تُسَيِجُ علاقة الدولة الفرنسية مع الشأن الديني بمضمون قانون 1905، أثناء إجراءات تنفيذ وبناء مسجد باريس وتدشينه سنة 1926؛ من خلال مساهمات بلدية باريس والحكومة الفرنسية وإصدار مراسيم استثنائية.. وقد تم تجاوز هذا “المطب القانوني” من خلال “آلية التوافق السياسي”… كما أنه لم يتم الالتفات إلى قانون سنة 1905 وتم تقديم قراءات مطاطية للعلمانية وتبريرات تحت غطاء الثقافة والتراث…

عندما تم تمويل بناء كتدرائية إيفري، وتعتبر أول كتدرائية فرنسية تم بناؤها في القرن العشرين حيث تقديرات البناء وصلت 60 مليون فرنك فرنسي ( أي حوالي 9,15 مليون أورو )، ساهم فيها Jack Lang وزير الثقافة الفرنسي بـ5 ملايين فرنك فرنسي (762,000 أورو ) تحت غطاء خلق “مركز الفن المقدس” داخل الكاتدرائية… وقد شملت لائحة المانحين مؤسسات حكومية أخرى “كجهة إيل دو فرانس” و”البلدية الجديدة” وغيرها ومتطوعين… وتم افتتاحها رسميا في شهر ماي من سنة 1996 وزارها البابا يوحنا بولس الثاني في السنة الموالية 1997.. أو عندما تم تخصيص مبالغ مالية كبيرة جدا من طرف مؤسسات الدولة الفرنسية وشخصيات عمومية فرنسية من أجل ترميم كتدرائية “نوتر دام دو باري” بعد حادث إحراقها في شهر أبريل من سنة 2019… حيث تم اعتبار كتدرائية “نوتر دام دو باري ” كتراث وطني وإنساني في مجال العمارة والتاريخ، وحيث عرفت العديد من الزيجات الملكية وتنصيب الغمبراطور نابوليون بونبارت بحضور البابا بيوس السابع…

لكن بعد كل هذا الجُهد الفكري والقانوني والسياسي من أجل بناء مؤسسة إسلامية ومسجد باريس بكل مرفقاته رغم الموانع القانونية بحكم قانون 1905… أن تكون شاهدة على تكريم فرنسي لكل ضحايا الحرب العالمية الأولى من جنود مستعمراتها من دول شمال وغرب إفريقيا…

وبعد كل ما حققه المسجد من غايات إنسانية واجتماعية سامية في أوقات تاريخية حساسة… فقد تم السطو عليه من جهات خارجية لا تملك الشرعية الدينية والروحية التي من أجلها ترافع الماريشال ليوطي ورئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس الجمعية العمومية سنة 1926… لقد حاولوا تسييس مسجد باريس، فأخرجوه عن سكته الحقيقية وصبغوه بلون المصالح السياسية والحملات الانتخابية ووزعوا الأموال يمينا ويسارا… وفرًقُوا مُسلمي فرنسا بعد أن كان مسجد باريس جامِعُهُم؛ بل إنه أصبح ملحقة لوزارة الخارجية لتلك الجهة، وأصبح الرئيس والإمام والخطيب مُجرد مُوظفي وزارة خارجيتهم… همهم الوحيد هو كتابة التقارير، بدل تأطير وتعليم الجاليات المسلمة للمبادئ السمحة للدين الإسلامي ولقواعد العيش المشترك، والدفاع عن حرية المعتقد كمبدأ كوني مُؤطر باتفاقيات عالمية لحقوق الانسان…

Arabe
Partager sur :