
سؤال بسيط... حمل رسائل كبرى
ما تأثير الأمطار على القطيع؟ حين طرح صاحب الجلالة الملك محمد السادس هذا السؤال على وزير الفلاحة، خلال المجلس الوزاري، لم يكن يبحث عن رقم في تقرير، ولا عن نسبة في إحصائية. كان يسأل بلسان فلاح بسيط، يعيش في الجبل أو في الهامش، يترقب المطر كما يترقب العدالة، ويرتجف قلبه كلما طال الجفاف أو فُقد الدعم.
تحول جوهري في تدبير ملف القطيع
السؤال لم يكن فنياً، بل كان اختباراً حقيقياً لمنظومة الدعم الفلاحي ومراقبة القطيع، وهو ما تبعته قرارات حاسمة. أهمها: نقل مهمة "إعادة تكوين القطيع" من وزارة الفلاحة إلى وزارة الداخلية. وهو قرار في ظاهره إداري، لكنه في جوهره سحب للثقة من منظومة أثبتت فشلها في التتبع والاستهداف، لفائدة وزارة أقرب إلى نبض الأرض.
فشل الدعم السابق... حقيقة لا غبار عليها
الواقع أن الدعم الذي رُصد في سنوات الجفاف لم يصل إلى من يستحقه. القطيع مات في الجبال، والذين احتاجوا يد العون تُركوا لمصيرهم، بينما أثرى آخرون من الملف في ظل غياب المراقبة والمساءلة. هذا ليس مجرد خلل في التوزيع، بل قد يكون مؤشراً على فساد ممنهج في آليات الدعم والاستهداف، وهو ما دفع الملك إلى التدخل شخصياً لوضع حد له.
الداخلية... الأقرب إلى الحقيقة
الرهان على وزارة الداخلية في هذا الملف ليس عبثاً. فهي وزارة تعرف الواقع أكثر من أي جهة أخرى. لا تحتاج إلى دراسات استشارية ولا إلى خرائط افتراضية، بل تعتمد على عيون على الأرض تعرف من يحتاج ومن يتلاعب. إنها إدارة لا تتعامل مع الفلاح من وراء شاشات، بل تنزل إليه في حقله، وفي لحظة حاجته.
فالداخلية تتوفر على شبكة ميدانية واسعة: قياد، شيوخ، مقدمين، يعرفون الأرض وأهلها بالأسماء والوجوه، ويستطيعون تحديد الفلاح الحقيقي من المستفيد الوهمي، بخلاف تقارير "إكسل" الباردة التي تُنتج في مكاتب بعيدة عن الواقع.
رسالة ملكية واضحة: المواطن أولاً
الرسالة التي بعث بها الملك من خلال هذا السؤال البسيط، كانت إعلاناً عن نهاية مرحلة من التدبير البيروقراطي المنفصل عن الميدان، وبداية مرحلة جديدة: واقعية، ميدانية، إنسانية. وهي أيضاً رسالة إلى من يشتغلون في الشأن العام: المواطن يجب أن يكون دائماً في قلب السياسات، لا في هامشها.
الملك... بلسان الوطن العميق
ما قاله الملك لم يكن مجرد توجيه من أعلى، بل كان صوتاً من أعماق الوطن. بكلمات قليلة، اختصر جلالته معاناة آلاف الفلاحين، وأرسل لهم إشارة أمل. فالملك لم يتحدث بلغة النخبة، بل بلغة المواطن، بصدق إنساني نادر في الخطاب الرسمي.
الخلاصة: قرار يحمل بُعدًا استراتيجيًا وسياديًا
من خلال سؤال واحد، كشف الملك خللاً بنيويًا في تدبير أحد أهم ملفات الأمن الغذائي، واتخذ قراراً استراتيجياً يعيد الثقة إلى الفلاح، ويعيد توجيه البوصلة نحو الأرض والميدان. إنه قرار سيادي يعكس إرادة ملكية حقيقية في استعادة العدالة الاجتماعية في العالم القروي، ومنح الأمل لفلاحٍ طال انتظاره لنصيبه من هذا الوطن.
عاش الملك... ولا عاش من خان الوطن.