
السيدة ليلى الزعروري خبيرة في مجال الطيران، وباحثة متخصصة في الأدلة الجنائية الفضائية، ومهتمة بالشؤون القانونية و الإصلاح القضائي.
📍جنيف سويسرا
تُعد المحاكمة العادلة ركيزة أساسية في منظومة العدالة وحقًا من حقوق الإنسان المكفولة بموجب المواثيق الدولية والدساتير الوطنية. وهي لا تقتصر فقط على حضور محامٍ أو إتاحة فرصة الدفاع، بل تتجسد في منظومة متكاملة من المبادئ والضمانات، يلعب فيها القاضي دورًا محوريًا بصفته الضامن الأول لسلامة المسطرة وميزان العدل بين الأطراف.
أولاً: المحاكمة العادلة كمنظومة متكاملة
المحاكمة العادلة لا تتحقق إلا من خلال التوازن بين أطراف الدعوى: النيابة العامة باعتبارها سلطة الاتهام، والدفاع الذي يمثل حقوق المتهم، والقاضي الذي يتولى الفصل وفقًا للقانون وبضمير مهني. لا يُنتظر من القاضي أن يتخذ موقفًا سلبيًا، بل عليه أن يكون فاعلًا في ضبط إيقاع المحاكمة وضمان احترام الحقوق، بما فيها التمكين من تقديم الأدلة والرد عليها.
ثانيًا: المعايير الجوهرية لتحقيق المحاكمة العادلة
1 : حيادية القاضي و استقلاله
يتطلب العدل أن يكون القاضي محايدًا لا يميل لطرف دون آخر، مستقلًا عن جميع السلطات، وغير مرتبط بأي مصلحة مادية أو معنوية قد تمس موضوعيته. الحياد لا يقتصر على السلوك الظاهري، بل يجب أن يتجسد في الشعور الداخلي بالاستقلال والعدالة.
2 : فحص الأدلة وإعطاؤها الوقت الكاف
يلتزم القاضي قانونًا وأخلاقيًا بفحص الأدلة التي يقدمها الطرفان دون تحيّز. ويجب عليه أن يمنح كل دليل الوقت الكافي للتحليل والدراسة، سواء كان وثيقة مكتوبة، شهادة شفوية، أو دليل مادي. تجاوز الأدلة أو التسرع في الحكم دون تمحيص يُعد انتهاكًا صارخًا لحقوق التقاضي.
لكن ألا يُثير واقع النقص الحاد في الموارد البشرية بالمحاكم، لا سيما خصاص عدد القضاة مقارنة بحجم القضايا المعروضة، تساؤلات مشروعة حول مدى قدرة القاضي الذي يُطلب منه أحيانًا البت في ما يفوق أربعين إلى ستين ملفًا خلال أسبوع، على التمحيص الدقيق في كل ملف على حدة، والاطلاع الشامل على كافة الأدلة والحيثيات، وتقييم مدى حجيتها ومطابقتها للقانون، بما يضمن احترام معايير المحاكمة العادلة المنصوص عليها في التشريعات الوطنية والمواثيق الدولية؟
إن الضغط الهيكلي الواقع على القضاة لا يُمكن تجاهله عند تقييم مدى تفعيل الضمانات الإجرائية، مما يفرض على الدولة التزامات مؤسسية لتأهيل المحاكم وتوفير الشروط المادية والبشرية الكفيلة بتمكين القضاء من أداء وظيفته في إطار من الاستقلالية والمهنية والفعالية.
3 : التحقق من صحة الأدلة
لا يكفي مجرد استلام الأدلة، بل يجب التحقق من مشروعيتها ومصدرها وظروف الحصول عليها. القاضي مطالب باستبعاد الأدلة غير القانونية، كالمُنتزعة تحت الإكراه أو التعذيب، وله أن يباشر وسائل الإثبات الإضافية مثل استدعاء الشهود أو الاستعانة بالخبرة الفنية إذا تطلب الأمر.
4 : التسبيب الواجب للحكم
تسبيب الأحكام هو أساس الرقابة القضائية وضمان الشفافية. يجب أن يبين الحكم كيف تفاعل القاضي مع الأدلة، وما الوزن النسبي الذي أعطاه لكل منها، وكيف استخلص النتيجة القانونية. الأحكام غير المعلّلة تُعد باطلة، وتُضعف ثقة المجتمع في استقلال القضاء.
5 : الالتزام بمبدأ المواجهة
لا يجوز للقاضي أن يبني قناعته على أدلة لم تُعرض أو تُناقش علنًا في حضور الخصوم. ومن الضروري تمكين كل طرف من الرد على أدلة الطرف الآخر، سواء من خلال استجواب الشهود أو تقديم بينات مضادة. الإخلال بمبدأ المواجهة يُفضي إلى خرق صريح لحق الدفاع.
ثالثًا: الإطار الدولي للمحاكمة العادلة
نصَّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR)، الذي صادقت عليه المملكة المغربية سنة 1979، في مادته الرابعة عشرة، على حق كل فرد في محاكمة عادلة أمام محكمة مختصة، مستقلة ومحايدة، تتولى الفصل في أي تهمة جنائية موجهة إليه.
و أكدت المادة ذاتها على ضرورة تمكين المتهم من التسهيلات الكافية لإعداد دفاعه، والاتصال بمحامٍ من اختياره، واستدعاء شهود لفائدته، بالإضافة إلى فحص شهود الإثبات في إطار احترام مبدأ المواجهة، كأحد أهم ضمانات المحاكمة العادلة
كما أرست مبادئ بانغالور بشأن استقلال القضاء مجموعة من القواعد التي توجب على القاضي أن يبني قراره فقط على الأدلة المعروضة عليه، دون أي تأثير خارجي، وأن يلتزم بالحيادية والموضوعية عند تقييم تلك الأدلة.
رابعًا: السوابق القضائية الدولية
أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR)، في العديد من أحكامها، أن عدم تمكين الدفاع من الاطلاع على عناصر جوهرية في ملف القضية، أو تجاهل القاضي لها، يُعد خرقًا لمقتضيات المحاكمة العادلة، لاسيما المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية، التي تقابل المادة 14 من العهد الدولي. وشددت على أن المحاكمة العادلة لا يمكن أن تتحقق دون إتاحة فرص متكافئة للطرفين أمام محكمة محايدة.
إن المحاكمة العادلة ليست مجرد مبدأ قانوني نظري، بل هي ممارسة يومية على القاضي أن يكرّسها عبر الحياد، فحص الأدلة، احترام حقوق الدفاع، والتسبيب الواجب للحكم. ولا عدالة دون قضاء مستقل وضمير مهني يزن الوقائع بإنصاف ويفصل في النزاعات بقوة القانون، لا بهوى أو ضغط خارجي. وعليه، فإن مسؤولية المحاكمة العادلة تقع على الجميع، لكنّ القاضي يظل حجر الزاوية في هذه المنظومة، وحاميًا لميزان العدالة.
غير أن منظومة العدالة تواجه اليوم تحديًا حقيقيًا في ظل الضغط الهائل على القضاة وكثرة القضايا المعروضة أمامهم، مما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى القدرة على تحقيق معايير المحاكمة العادلة في ظل هذه الإكراهات.
فكيف يمكن النهوض بمنظومة العدالة، ومساعدة القاضي في أداء مهامه النبيلة على الوجه الأمثل؟
وهل يمكن أن يشكّل التحول الرقمي القضائي رافدًا حاسمًا في هذا المسار، من خلال تخفيف العبء الإداري، وتمكين القضاة من التفرغ لدراسة الملفات وتمحيص الأدلة بدقة، وبالتالي الإسهام في النهوض بمنظومة العدالة وتحقيق عدالة ناجعة وفعالة.؟
وهل يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في النهوض بمنظومة العدالة، من خلال تعزيز فعالية العمل القضائي، وتيسير معالجة الملفات، وتحسين دقة تحليل الأدلة، دون المساس بضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الأطراف؟
{ الجزء الثالث : يتبع }
للاطلاع على المزيد، يُرجى زيارة الرابط التالي :
https://maglor.fr/arabe/almhakmt-aladlt-fy-almghrb-kyf-ywazn-alqady-byn-srt-albtw-wjwdt-alhkm