ونحن نتابع تلك المشاهد المقززة ، لما ثم تقاسمه عبر وسائل التواصل الإجتماعي ، من صور لإحتفالات تلاميذ بنهاية السنة الدراسية ، وذلك بتمزيق دفاترهم ، في مشهد يسائلنا جميعا ويسائل مسؤولينا عن إصلاح طال إنتظاره ، لقطاع يرقص المتعلم منتشيا على أشلاء رمزيته.
ولتعود بنا الذاكرة للمدرسة العمومية ، التي تخرج منها جيلنا الذي يعيش اليوم عقده الخامس ، و قبله جيل أو جيلين، كان تعليمهم نمودجا لوحدة الوجدان الوطني ، تعليم عمومي ميز حقبة ذهبية من تاريخ السياسة التعليمية بالمغرب ، تعليم كان بمتابة البوتقة التي إنصهر فيها الحد الضروري ، من الادراك الجماعي لمصالح الوطن وتحدياته .
في المدرسة الإبتدائية و بكل ربوع الوطن حينها ، والتي إعتدنا فيها كل صباح باكر، توحيد الصف وتحية العلم ،كنا فيها تلاميذ متجاورين و متصادقين عبر خطوط الفصل الواحد ، بغض النظر عن مكانة كل واحد منا الإجتماعية ، أبناء الفقراء و الفلاحين و الأغنياء و التجار و الموظفين من عموم الطبقة الوسطى ، تضمنا مدرسة واحدة و فصل واحد، و يتقاسم كل إثنان منا المقعد المزدوج وكتاب إقرأ لأحمد بوكماخ ،أحد المقررات الناجحة في تاريخ التعليم بالمغرب .
كنا ندرك جيدا خطوط هذا التمييز المادي من خلال ملابسنا وحتى من طبيعة حلاقة شعرنا بالفصل كما في الشارع ، لكن كان لنا كبرياء وعزة نفس وشغف في تحقيق النجاح والتميز ،كنا تلاميذ وطلاب في حلقاتنا وحديتنا نتفاخر بالأفكار ونناقش الحجة بالحجة ونتباها بمعدلاتنا وتفوقنا ،كنا نحترم حرية الإختلاف في الرأي ، تواقين لوطن أفضل،فكنا نتقاسم بيننا كل ما هو جميل وحتى أحزاننا ومعاناتنا و كسرة الخبز وبعضا من شعر حمود درويش وأغاني ناس الغيوان ...
كنا نتشارك كل شيئ ، مهما إختلفنا إجتماعيا ، فوجداننا الوطني ضل ثابتا تجاه القيم الجمعية المعبرة عن ولائنا وانتمائنا الحقيقي في الكثير من المحطات الحرجة التي مر بها الوطن .
حس جماعي شكلته المدرسة العمومية والجامعة المغربية ، والتي تخرج منها أجيال لازالت أسماء بعضها تشع في مجالات كثيرة داخل الوطن وخارج .
اما في ظل الموجة الحالية وما عرفه التعليم الوطني من تظهور لا أقول فقط العمومي منه ، بل الأمر ذلك الخصوصي ، الذي تحول الى تجارة مربحة ، تعليم فرض على الكثيرين منا ،و على مضض ، و في غياب مدرستنا العمومية الحقة ، رغم كل مخططات التأهيل والإصلاح ، و رغم جهود خبراء تعليمنا المحترمين الذين تفننوا في إستيراد نمادج ،وكأننا فقدنا كل مقومات الخلق والابداع وكأن جامعاتنا أصبحت عقيمة البحث العلمي ، الذي تركن له الشعوب في بناء حضراتها .
إصلاحات متلاحقة أبرزت بالملموس أنها لا تؤدي إلى حلول، بل زادت من تعقد التعليم فمن الميثاق الوطني للتربية والتكوين في 2003 الى المخطط الاستعجالي، ونظام التعاقد. لقد تحول نظام التعليم الى مختبر للتجارب، أبطاله وزراء متعاقبون.
سأعود بكم ياسادة ، إلى بريطانيا،كمثال وليس كنمودج يحتدى به ، فلكل مجتمع ثقافته ومحفزات نجاحه المرتبطة بخصوصيته وتاريخه .
أقول في بريطانيا وفي ظل حكم المحافظين و الذين يعتبرون انفسهم حراس الحرية الى أقصى حد، كان جدل كبير حول ،" حرية الإباء في اختيار مدارس أبنائهم "، و كان المقصود هو إختيار هذه المدرسة أو تلك ضمن نظام واحد موحد للتعليم الوطني، و كانت الحكومة التي نادت بهذه الحرية تستجيب لنزعة بعض المتعصبين البريطانيين، الذين لا يريدون لأبنائهم أن يختلطوا في المدرسة بأبناء الأقليات المهاجرة .
لكن الحكومة هزمت ، لأن الراي الذي غلب حذر من أخطار هذه الحرية و على قابلية هذه الأقليات المهاجرة للاندماج في المجتمع.
ختاما ، كلنا يعلم ويعي أن مجتمعنا مجتمع متحول ومتغير، وأننا دوما نحتاج من أجل ذلك لبوصله تحدد اتجاهاتنا في مختلف المجالات ، وهنا يأتي التعليم البناء والهادف ، التعليم الوطني الحقيقي بمقرراته الحقة النابعة من ثقافتنا وارثنا التاريخي وليس ذلك المسخ المستورد ، تعليم وطني من أجل تصحيح المسار وبناء قاعدة متينة ترسم معالم الطريق السوي لأجيال المستقبل .
فالوطن بحاجة لكل لكل أبنائه ، ليقفوا موقفا واحدا يجسدون من خلاله ولائهم وانتمائهم ، وليقفوا سدا منيعا ضد كل المحاولات التي تريد ان تنال من أمنه واستقراره وتماسكه .
الحسين بكار السباعي