
السيدة ليلى الزعروري، متخصصة في مجال الطيران، وباحثة في الأدلة الجنائية الفضائية، وتهتم بالشؤون القانونية والإصلاح القضائي. جنيف، سويسرا.
📍جنيف سويسرا
تجربة شخصية في زمن الأزمة: تأملات في العدالة والعقوبات البديلة
في زمن الأزمات، تظهر بعض التجارب الشخصية كمرآة لقياس فعالية السياسات العامة، ومدى توازنها بين الصرامة والمرونة. خلال جائحة كورونا، عشتُ تجربة واقعية مع نظام العقوبات البديلة في سويسرا، بعدما خالفت تدابير الحجر الصحي لاعتبارات حياتية مرتبطة بثقافتي اليومية وانتمائي إلى جالية عربية محدودة الموارد.
هذه التجربة لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت مدخلًا لفهم أعمق لفلسفة العدالة في دولة تتبنى القانون بصرامة، لكنها تفتح في المقابل آفاقًا لتصحيح السلوك دون اللجوء دائمًا إلى العقوبات السالبة للحرية.
من خلال هذا المقال، أسعى لتقاسم ما تعلّمته على المستويات النفسية، القانونية، والاجتماعية، وتسليط الضوء على فعالية العقوبات البديلة من منظور إنساني وتجريبي، كما أتناول العلاقة بين هذه العقوبات والتحول الرقمي، وأطرح تساؤلات حول مدى قدرتها على تحقيق توازن عادل بين الردع والإصلاح.
أولًا: التجربة الشخصية وتأملات إنسانية
1. من هذه التجربة تعلّمت الكثير على المستوى النفسي والسلوكي. فقد أدركتُ أن احترام القانون لا يرتبط فقط بالخوف من العقوبة، بل بفهم أعمق لمعناه المجتمعي. أصبحت أكثر وعيًا بمسؤوليتي كمواطن في ظل الأزمات، وتعلمت أن هناك دائمًا حلولًا قانونية بديلة يجب البحث عنها بدل الوقوع في المخالفة.
لقد أدركت أن العقوبة لم تكن مجرد إجراء قانوني، بل رسالة واضحة مفادها أن النية الطيبة لا تعفي من المسؤولية القانونية.
وفي هذا السياق أقول بصراحة، رغم الظروف التي دفعتني إلى خرق الحجر الصحي، لا أجد اليوم مبررًا مقنعًا يُبرّر تجاوزي للقانون. عبوري الحدود فقط من أجل شراء باقة نعناع لم يكن تصرفًا مسؤولًا في سياق استثنائي تطلّب من الجميع الانضباط والتضحية. وأعترف أنني استحق العقوبة التي فُرضت علي، لأن احترام القانون لا يُقاس بنوايانا الفردية، بل بمدى التزامنا الجماعي بالضوابط التي تحمي الصالح العام، لقد أدركت من خلال هذه التجربة أن قوة المجتمعات لا تُبنى بالتراخي، بل بالقوانين الصارمة التي تحرص على النظام، وتُذكّر الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين قبل أنفسهم.
2. لا أنكر أن العقوبة كانت منطقية ضمن نظام قانوني صارم وشفاف. شعرت أن سويسرا تُطبّق القانون على الجميع دون تمييز، وهو مبدأ إيجابي.
3. لو أُتيح لي الدفاع عن موقفي، لكنت أكّدت أنني لم أخرج بنية خرق القانون، بل لتأمين احتياجات أساسية لم تكن متوفرة محليًا. كنت سأدعو إلى أخذ هذه الاعتبارات الثقافية والواقعية بعين الاعتبار، وأن يتم تطبيق القانون بروح من التفهّم دون التنازل عن مبادئه.
ثانيًا: فعالية العقوبات البديلة
4. أرى أن العقوبات البديلة كانت فعّالة جدًا في ردعي شخصيًا، وأكثر إنسانية من العقوبات السجنية. فهي من جهة تفرض المسؤولية، ومن جهة أخرى لا تقطع علاقتك بالمجتمع ولا تعزلك، وهو ما يجعلها تساهم في الإصلاح أكثر من العقاب.
5. خلال جائحة كورونا، لاحظت أن عددًا من الأشخاص من حولي أصبحوا أكثر التزامًا بقانون الحجر الصحي، خاصة بعدما شرحت لهم حجم الغرامات التي تطبَّق في حال المخالفة. لقد كان لوقع العقوبة المالية أثرٌ مباشر وسريع، خصوصًا عندما يشعر الناس أن القانون يُطبّق بعدالة وبدون استثناء، ما يعزز ثقتهم في النظام القانوني ويحفّزهم على احترامه طوعًا.
ثالثًا: البُعد الاقتصادي والاجتماعي
6. الجانب المالي من العقوبات البديلة ليس سلبياً في حد ذاته، بل يمكن اعتباره وسيلة ذكية لدعم موارد الدولة دون اللجوء إلى السجن. لكن المهم هو أن يبقى البعد التربوي في المقدمة، وأن لا يتحول الأمر إلى مجرد آلية لجمع الأموال.
7. يجب الحذر من تحميل الفئات ذات الدخل المحدود عبئًا ماليًا لا طاقة لها به. لذلك، أؤيد اعتماد غرامات نسبية حسب الدخل، مع بدائل غير مالية لهذه الفئات، مثل العمل المجتمعي أو المشاركة في برامج اجتماعية، بما يحقق العدالة دون إثقال كاهل أحد.
رابعًا: العدالة التصالحية والتحول الرقمي
8. من التحديات الكبرى في إدماج الذكاء الاصطناعي في العدالة أنه قد لا يلتقط المعطيات الإنسانية الدقيقة، لكن يمكنه أن يُعزز الشفافية ويوفر الوقت إذا استُخدم بحكمة. أؤمن بأن التكنولوجيا يجب أن تكون أداة مساعدة لا بديلة عن الحس القضائي.
9. تُعد سويسرا من الدول التي قطعت خطوات مهمة في رقمنة العدالة، لا سيما في ما يتعلق بالمخالفات البسيطة. فقد طورت أنظمة إلكترونية تُتيح معالجة هذه القضايا بكفاءة وسرعة، دون الحاجة لحضور فعلي أمام المحاكم. كما بدأت في اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي لتتبع تنفيذ العقوبات البديلة، ما ساهم في تعزيز دقتها وشفافيتها، وضمان تطبيقها العادل والمنضبط، بما يتوافق مع مبادئ العدالة التصالحية.
10. يمكن للعقوبات البديلة أن تُخفّف من العبء الكبير على المحاكم، خاصة إذا تم تقنينها وتفعيل آليات تنفيذها. هذا سيُتيح للقضاة التركيز على الجرائم الكبرى، ويحسن جودة القرارات العدلية.
ُظهر تجربتي مع العقوبات البديلة أن هذه الآلية ليست مجرد خيار قانوني تقني، بل فلسفة عدلية متكاملة تُعيد النظر في مفهوم العقوبة بحد ذاته. فهي تتيح الردع دون تدمير الحياة الاجتماعية للفرد، وتوفّر للدولة موارد بدلًا من استنزافها، وتُمهّد لعدالة أكثر مرونة وإنصافًا.
لكن نجاح هذه المنظومة يظل رهينًا بوجود إطار شامل يضمن فعاليتها وعدالتها.
لهذا، أنصح دائمًا بوضع منظومة متكاملة تُمكّن من تطبيق هذه العقوبات تدريجيًا، مع التأكيد على ضمان مرافقة اجتماعية للمحكوم عليهم، وتدريب الفاعلين في مجال القضاء، حتى يتحقق التوازن بين الردع والرحمة، وبين القانون والواقع.
{ الجزء التاني : يتبع }
للاطلاع على مزيد من التفاصيل، المرجو زيارة الرابط التالي:
https://maglor.fr/arabe/alqwbat-albdylt-khlal-ftrt-alhjr-alshy